ولو نظرنا كيف دخلت العلمانية إلى العالم الإسلامي، لعلمنا أن السبب هو الخرفة والجهال، وهو نفس السبب الذي أدخل العلمانية إلى أوروبا، ولو كان المسلمون مسلمين حقاً، لما دخلتها العلمانية، ومن أسباب دخول الخرافة إلى التصوف، أن التصوف هو صورة أخرى للرهبانية النصرانية التي تعني الانعزال عن الدنيا، وأن تذهب للاهتمام بالدين كما يقولون.
وأول من بنى رباطاً للصوفية هو أمير الرملة، وهو أمير نصراني راهب، بناها على طريقة أديرة الرهبان، فهو نصراني بنى هذا الرباط، وبعد أن كان التصوف في أشخاص أصبح الآن في رباط يجتمع فيه أناس، ومن هنا دخلت الصوفية إلى مرحلة أخرى، وهي مرحلة الرهبانية النصرانية، ونظرت إلى الحياة نظرة مقت وازدراء، وأخذت الجبرية التي أخذتها الكنيسة، وبدأ هذا الانحراف في القرن الرابع بوضوح، والصوفية بدأت بالزنادقة الشيعة، أناس تستروا بالتشيع وأناس تستروا بالتصوف.
والشيعة حققت نجاحاً كبيراً؛ لأنهم دخلوا باسم حب آل البيت، والصوفية دخلت بحب الرسول، فكان تأثير الشيعة محدوداً في الشعوب الشرقية، مثل الفرس وأمثالهم، أما الصوفية فكانت أعمق وأخطر في الهدم؛ لأنهم أخذوا شخصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعلوا عليه صفات الألوهية التي قالها النصارى في عيسى إلا أنهم لم يقولوا: إنه ابن الله، فهم أعطوه علم الغيب وبهذا قضوا على مصدر التلقي، ونحن نقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت الصوفية: لا، أنتم تأخذوا علمكم من ميت عن ميت، تقولون: حدثنا فلان عن فلان، أي: ميت عن ميت، ونحن نأخذ عن الحي الذي لا يموت، العلم المباشر، فإذا أراد الإنسان أن يعرف هذا الحكم، هل هو صحيح أو غير صحيح، فإنه لا يقرأ صحيح البخاري ولا يقرأ صحيح مسلم، بل يصلي على رسول الله كذا ألف مرة، ويذكر الورد الفلاني، وينام ويرى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم إذا كان من السالكين، أما الواصلون فإنهم يرون النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، فيقول له: يا فلان افعل كذا، تزوج فلانة، وهذا حلال وهذا حرام، فإذا اعترض عليه أحد بأن هذا حرام، يقول: أنت تتكلم بعلم مأخوذ من ميت عن ميت، ونحن نأخذ العلم مباشرة، فكيف تعترض علينا؟! ومعروف عندهم الكشف والفتح، وأشهر ما يذكر في تاريخ التصوف، أن الإنسان يدخل الخلوة ويبقى فيها عشرين سنة لا جمعة ولا جماعة ولا اغتسال وهم في الحقيقة يرتكبون الشرك، وتأتيهم الشياطين بالأخبار، فيأتي الناس يكلمونه، وهو في الخلوة، فيقولون للشخص: أنت فلان وجئت من أجل كذا، فيصدقه الناس ويؤمنون بأن هذا كشف وفتح.
فأصبح التدين في أعين الناس هو هذه الطريقة، وليس هو عبادات بمعناها المعروف، بل هذا هو الدين عندهم، وما عداه فدنيوي، وهي الترجمة الحقيقية لكلمة علمانية.
فلما جاء الغزو الفكري الحديث، وجاء لمهاجمة المسلمين، كان المسلمون أمة غارقة في الخرافات والجهل، كما كانت النصرانية.
فدخلت الأنظمة والقوانين من هذا الطريق، من طريق أن الدنيا ننظم لها ونشرع لها، ونجعل الدولة إما ديمقراطية أو نجعلها اشتراكية أو غيرهما وما المانع فهذا تنظيم حكم لا تشريع دين! أما الدين فالدين هناك في المسجد، في الزاوية عند المتصوفة، لذلك لم يقم ولن يقوم أي تعارض بين أي حاكم يحكم بغير ما أنزل الله، أو مع ملحد يؤلف الكتب ضد الإسلام، لا تقوم بينهما عداوة بل يبقى التقارب والاقتران بينهما، كما كانت الاتفاقية المشهورة بين رجال الدين في أوروبا، وبين الأباطرة في تلك المرحلة.
لأن تطبيق غير شرع الله عز وجل، أو التحاكم إليه لا يمكن أن يعترض عليه رجل لا يرى الدين إلا الذكر والأوراد، ولو أتاه أكبر مجرم فأخذ منه الورد، فهذا كل ما يريد، وإن جحد بعد ذلك، أو نَحَّى شرع الله، أو لم ينحَّه، وصلى أو لم يصلِ، فهذه قضية لا تهمه، والقضية عنده هي الانتماء إلى طريقته لا إلى طريقة غيره.