لكن يا ابن آدم! ماذا يشبعك في هذه الحياة الدنيا، ما الذي يمتعك في هذه الدنيا، وما الذي يكفيك منها، ولهذا قال بعض السلف: إن نصف الورع ونصف العلم، في حديثين، قال: أما نصف العلم فهو في {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه}، وأما نصف الورع فهو في: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وأنا -حقيقة- عندما قرأت هذه العبارة تعجبت كيف أتى بها هنا! ولا شك أنهم أفقه منا وأسبق منا إلى كل خير لكن ماذا يريد بقوله:{من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه} وكيف يكون نصف العلم؟ لو قال: المحافظة على الوقت لكان هذا ممكنًا، لكنه يتحدث عن الوقت وجاء بها في باب نصف العلم، فرجعت إلى نفسي فقلت: نعم، لا شك ولابد أن لهم حكمة، لأنك لو شغلت وقتك في العلم -وأفضل ما يُعمر به الوقت هو طلب العلم، فالوقت كله لو حصرته في العلم فهذا أفضل، وأعني العلم الذي يورث الخشية والعمل والتقوى، فيكون الإنسان عالماً بالله وبأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كما قال سفيان - لو فرغت وقتك وعمرك كله للعلم وحده فكم ستحصل من العلم؟ ليس ما تريد، بل أقل منه، فخذ هذه القاعدة معك {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه}، فإنك لو طبقتها فكم ستوفر من الأوقات! فكأن أكثر الناس في الحقيقة نصف عمره هو فيما لا يعنيه، وكل واحد منا ينظر في نفسه، فلو علمت هذا وطبقته وتمثلته في نفسك لكنت فعلاً حائزاً على نصف العلم والنصف الآخر لديك، لأن العلم له فضول، حتى بعض المسائل من واقعنا لها فضول.
وأضرب لك مثالاً من واقعنا: عندما يأتينا العالم من العلماء الذين وقتهم ثمين جداً -لأنه لو لم يأتنا في هذا اليوم لنفع الله به في بلد آخر، ولأفتى فتوى تقيم الإسلام في بلد، كشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية لما أفتى في التتار هبوا للجهاد من أطراف الدنيا- فهل جاءونا نحن لكي نضيع عليهم أوقاتهم فيما لا يعنيهم، فالأسئلة التي نسأله مكررة ومعروف رأيه فيها من قبل أن يولد، وليس فيها جديد، وكلامه ليس فيه جديد، ونترك قضايا مهمة جداً فلا نعرضها عليه، فأضعنا أوقاتنا وأوقات العلماء، فلو كنا نعرف نصف العلم ونطلبه لكان الحال غير الحال، إذًا فنترك ما لا يعنينا.
وأسئلة أكثر الناس، وحتى بعض طلبة العلم من باب الفضول، وفضول العلم وفضول المسائل يأتي من قبل الشيطان، ولهذا كان السلف الصالح لا يتكلمون إلا فيما وقع، ولما قيل لـ ابن عمر رضي الله عنه: أرأيت لو أن رجلاً فعل كذا، قال:[[دع أرأيت في اليمن]] فلا يوجد عندنا أرأيت فإذا وقع فاسأل، ولا تقل أرأيت لو كان كذا كيف أفعل، وإذا وقع كذا ماذا يكون، ولكن اشغل وقتك الثمين وهذا العقل والذهن وهذه الطاقة التي أعطاك الله إياها وهذا العمر الثمين فيما يعنيك، فإن الواجبات محدودة.