للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أنواع الكتابة]

وهذه الكتابة لها تفصيلات وأقسام، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قدّر هذه الأقدار المعلومة المكتوبة بتقديرات مختلفة، بعضها لا يطابق بعضاً.

فقبل أن يخلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذا الكون كتب ماذا سيكون فيه، وهذه الكتابة نستطيع أن نسميها الكتابة الكونية.

فكل الكون وما سيقع فيه مكتوب، ولما خلق الله تبارك وتعالى آدم واستخرج ذريته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من صلبه في عالم الذر، وجعل طائفة منهم من أهل الجنة، وطائفة منهم من أهل النار.

فكتب للنار أهلاً، وكتب للجنة أهلاً قبل أن يخلق الخليقة، وإنما قد خُلق في ذلك الوقت الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام، واستخرج من ظهره ذريته وجعلوا فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، وهذه كتابة تتعلق بالنوع الإنساني، ونستطيع أن نسميها الكتابة النوعية، أي: لنوع الإنسان، فوضع منهم الشقي، ومنهم السعيد، بحسب علمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بما سوف يعملون.

ثم هنالك كتابة تتعلق بكل فرد من مخلوقات الله من بني آدم؛ فالكون كله له كتابة، والجنس البشري كله -النوع الإنساني- له كتابة، وكل إنسان له كتابة أيضاً.

فمتى تكون هذه الكتابة؟ هذه الكتابة هي ما أخبر عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه عنه عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وأنس بن مالك في الصحيحين في الحديث المتفق عليه، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حدثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق: {إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقه مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها} ونحو ذلك ورد في الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه.

والمقصود هنا أن هناك كتابة عمرية تتعلق بكل إنسان، فما من نفس منفوسة، وما من نسمة مخلوقة إلا وكتب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ماذا سيكون لها، فكتب لها هذه الكلمات الأربع أول ما نفخ الروح في هذا الإنسان، وهو مضغة في الظلمات الثلاث -في الرحم- فكتب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له الرزق، والأجل، والعمل، والشقاوة أو السعادة؛ فهذا نوع من أنواع الكتابة.

ثم بعد ذلك الكتابة الحولية -تقديراً حولياً سنوياً- في الحول والسنة، وفي أي ليلة سيكون هذا التقدير؟ إنه يكون في ليلة القدر، التي فيها يفرق كل أمر حكيم.

فيكتب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في تلك الليلة ما هو واقع في عالم الوجود هذا إلى مثلها من السنة القادمة، حتى إنه كما ورد في الحديث: {إن الرجل ليرى في الأسواق ماشياً، وهو مكتوب عند الله تعالى من الأموات} أي: أن هذا الإنسان يمشي ويتحرك ويضحك، وموعده لن يصل إلى ليلة القدر القادمة، بل سيموت في هذه السنة، وفي الوقت الذي كتبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو أعلم بما كان وما سيكون.

ثم بعد التقدير السنوي يكون التقدير اليومي، وهذا التقدير اليومي هو ما أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنه بقوله: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:٢٩] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل يوم يعز ويذل ويحيي ويميت ويعطي ويمنع ويخفض ويضع، كما يشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

فهذه المقادير التي يقدرها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يومياً وينفذها، وفق ما اقتضت إرادته ومشيئته، ووفق ما سبقت به الكتابة في اللوح من قبل.

فهذه الدرجة الأولى من درجات القدر، ونستطيع أن نجعلها درجتين إذا قلنا: إن العلم درجة والكتابة درجة، ونستطيع أن نجعلهما درجة واحدة، فنقول: مرتبة العلم والكتابة؛ فما علمه عز وجل كتبه أيضاً في ذلك اللوح المحفوظ وهو الإمام المبين.