[الراجح في سبب نزول وأقوال العلماء في تنزيلها]
وجمع النصوص والعمل بها جميعاً أفضل، وإن كانت روايات قضية الزنا أصح، لكن يمكن أن يجتمع السببان.
ومما يؤيد ذلك: سياق الآيات: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:٤٥]، فهذه فيها قرينة تؤكد أنه كان هناك من الحيف والجور في ترك حكم الله، وأنهم لم يلتزموا بحكم الله فيها من أن النفس بالنفس.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: 'ولهذا قال بعد ذلك: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:٤٥] إلى آخرها، وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم، وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:٤٤] '.
والشاهد هنا: هل هو على أحد السببين أو على كليهما؟ الصحيح أنها كما قال البراء بن عازب -كما تقدم-: {في الكفار كلها}، وقال حذيفة بن اليمان -وهو الحديث الذي ذكرنا أن الحاكم رواه وهو صحيح-: [[نعم أبناء عم لكم اليهود]]، وقال ابن عباس والحسن البصري وغيرهم: [[نزلت في أهل الكتاب]]، وزاد الحسن البصري [[وهي علينا واجبة]] فـ الحسن رحمه الله تنبه لما تنبه إليه حذيفة أو نبه إليه حتى لا يقول أحد: نزلت في أهل الكتاب فيكون هذا حكماً خاصاً بهم، لذا قال الحسن: 'نزلت في أهل الكتاب وهي علينا واجبة'.
أي: أنها حكم واحد فينا وفيهم.
قال: 'وروى ابن جرير عن علقمة ومسروق: أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة، فقال: من السحت، قال: فقالا: وفي الحكم قال: ذاك الكفر'.
فإذا أعطى رشوة من أجل الوظيفة، أو يمضي له معاملة فهو سحت، لكن إذا كان أعطاه ليحكم له بخلاف ما أنزل الله، قال ابن مسعود: 'ذاك الكفر -نعوذ بالله- ثم تلا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:٤٤] '.
وهنا نقول نفس الكلام الذي ذكرناه من قبل، وهو أن الحكم هنا فيمن ارتشى وهو مقيم لدين الله، ويحكم بما أنزل الله، وملتزم بشرع الله، لكن ارتشى في قضية معينة، وخرج عن حكم الله وخالفه، فالحكم فيه كما قال ابن مسعود رضي الله عنه (الكفر) والمقصود به الكفر الأصغر، فهذه معصية سميت كفراً كما أوضحنا من قبل.
قال: 'وقال السدي: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:٤٤] يقول: ومن لم يحكم بما أنزلت فتركه عمداً'.
فالقضية ليست قضية نسيان أو جهل، فإنه إذا خالف حكم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مع أنه ملتزم بحكم الله، وبشرع الله في محكمة شرعية، ويطبق حكم الله من حيث الأصل؛ لكنه عمد إلى حكم من أحكام الله فتركه: 'أو جار وهو يعلم فهو من الكافرين'.
كما قال ابن مسعود، فيكون قد عصى معصية تُسمى كفراً إلا إذا كان مقصود السدي أنه يترك حكم الله أو أن يجحده فيكون من الأنواع الستة التي ذكرها الشيخ، فيكون كفراً أكبر.
قال: 'قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:٤٤] قال: [[من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به فهو ظالم فاسق]] '.
فمن أقر به ولكنه خالفه وعصى، وتركه مع إقراره به والتزامه وانقياده وخضوعه فهذا ظالم فاسق.
فـ ابن عباس رضي الله تعالى عنه فصَّل، بأن للحكم بما أنزل الله حالتان: حالة كفر أكبر، وحالة كفر أصغر، وعلى هذا فتكون الآية الأولى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:٤٤] في الجاحد، ويكون الظالمون والفاسقون في المقر العاصي، وهذا الذي قلنا: إنه خلاف اللغة، وخلاف ظاهر الآية، فهذا القول مرجوح، إلا أن المهم في كلام ابن عباس رضي الله عنه أنه ذكر النوعين من أنواع الكفر.
قال: 'واختار ابن جرير أن الآية المراد بها أهل الكتاب أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب'.
أي: إن ابن جرير رحمه الله يقول: الكفر كفر أكبر -والمقصود به كفر أهل الكتاب أو كفر الجاحد فهو كافر كفراً أكبر- سواء كان من أهل الكتاب وكفرهم أكبر لا شك في ذلك أو كان من هذه الأمة، ولكن خرج عن الملة وإن انتسب إليها، فـ ابن جرير رحمه الله لا يرى كلام ابن عباس رضي الله عنه المروي عنه من طريق علي بن أبي طلحة بأن الآية الأولى في الكفر الأكبر والآيتان الأخيرتان في المعصية، فهو يقول: إنهما في الكفر أو فيمن خرج عن الملة وإن انتسب إلى الإسلام.
قال: 'وروى ابن جرير عن الشعبي [[{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:٤٤] قال: هذا في المسلمين -فمن الأقوال التي نقلها ابن جرير غير الأقوال المتقدمة، قول الشعبي ومعناه: إن المسلمين إذا خالفوا القرآن الكريم كفروا-: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:٤٤] قال: هذا في اليهود -فاليهود إذا خالفوا التوراة فهم ظالمون- ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) [المائدة:٤٤] قال: هذا في النصارى]] '.
فـ الشعبي يقول: إن الوصف الأول: للمسلمين، والثاني: لليهود، والثالث: للنصارى، ففرّق بين الأوصاف، وهذا مرجوح كما قد ذكرنا لكن ما يهمنا هو: أن الشعبي جعل الآية في حق المسلمين، فمن عدل عن حكم القرآن إلى حكم غيره أو من حكم غير كتاب الله فهو عند الشعبي كافر كفراً واحداً.
قال: 'وروى عبد الرزاق عن طاوس عن أبيه قال: [[سُئِلَ ابن عباس عن قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:٤٥] قال: هي به كفر -أي: هذا العمل به كفر-.
قال: ابن طاوس: وليس كمن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقال عطاء -وهو تلميذه وعنه نقل-: كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق]] رواه ابن جرير، وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:٤٥] قال: [[ليس بالكفر الذي تذهبون إليه]] ورواه الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه'.
فـ ابن عباس رضي الله عنه له رواية تُفصَّل أن الآية فيها كفر أكبر وفيها كفر أصغر، وروايات أخرى تقول: إن المقصود الكفر الأصغر، لكن نلاحظ أن هذه الرواية الأخيرة التي يقول فيها الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، قال: [[ليس بالكفر الذي تذهبون إليه]].
إذاً: ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يتكلم عن حالة واقعة معاصرة، ومسألة مختلف فيها، وهي موجودة يتناقش فيها الناس، فذهب البعض فيها إلى كذا، وذهب البعض فيها إلى كذا، وكذلك كلمة البراء: {في الكفار كلها} فالظاهر أن القولين متعارضان.
لكن القضية أن كلاً منها يريد أن يعالج مسألة موجودة، شاعت وانتشرت في مسألة الكفر وعدم الكفر في زمن الصحابة؛ وهي: قول الخوارج الذين يُكفِّرون المسلمين بسبب المعاصي والذنوب، قالوا: إن من أدلتنا أن المسلم إذا عصى وارتكب كبيرة يكفر بمجرد ذلك، قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُون} [المائدة:٤٤] قالوا: فهؤلاء بني أمية حكموا بغير ما أنزل الله، وأمثالهم كالإمام علي رضي الله عنه، فإنه عندهم خالف كتاب الله، وحكّم الرجال في دين الله، ورضي بالحكمين فهو كافر، وعثمان عندهم كافر -أيضاً- لأنه خالف سيرة الشيخين الراشدين، ودليلهم الآية، وأنهم ما حكموا بما أنزل الله بل خالفوا أحكام الله وقصروا في بعض أحكام الله، فهم كفار، فيقول ابن عباس: [[ليس بالكفر الذي تذهبون إليه]] والبراء يقول: في الكفار كلها} أي: أنها ليست في العصاة المخالفين وإنما هي في الكفار، فرغم اختلافهما إلا أن النتيجة عند الصحابة كلهم أنهم متفقون على أمر وأصل عظيم من أصول هذه العقيدة -عقيدة أهل السنة والجماعة - وهي أن المسلم لا يكفر بمجرد الذنب أو المعصية كما تقدم معناه.
يقول الشيخ أحمد شاكر بعد أن عزاه إلى الحاكم "٢/ ٣١٣": ' ولفظه: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، وإنه ليس كفراً ينقل عن الملة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:٤٤] كفر دون كفر، ووافقه الذهبي على تصحيحه '.
يقول الشيخ أحمد شاكر: - 'وهذه الآثار عن ابن عباس وغيره- أي: عطاء وطاوس وهم تلامذته، قال: مما يلعب به ال