للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة الشرك]

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: أيها الإخوة المؤمنون: ما زلنا في الموضوع المهم الجلل الذي دونه كل موضوع، وهو موضوع الشرك، حقيقته وخطره وضرره، وكنا في درس سابق بحمد الله تعالى وتوفيقه قد قرأنا للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، كلاماً قيماً نفيساً عن الشرك وعن التعطيل، ووقفنا عند شرك الإرادات والنيات، فنكمل إن شاء الله تبارك وتعالى كلامه رحمه الله؛ لأن الموضوع قد لا يأتي له مناسبة أخرى، وإن جاءت فبعد حين، ونحن نعلم أن أهم ما ندعو إليه هو التوحيد، وأن أوجب ما ينبغي أن نتعرف عليه من الأضداد هو ضد التوحيد وهو الشرك بالله تعالى، الذي هو أكبر الذنوب.

والذي جاء الحديث عنه في متن الكتاب بمناسبة الكلام عن الرجاء، وذلك أن المشرك لا رجاء له عند الله تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ} [هود:١٦] فلا يرجون رحمة الله، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولكن يستدرجهم من حيث لا يعلمون.

ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (إذا عرفت هذه المقدمة -من الكلام الذي تقدم كله في درس سابق- انفتح لك باب الجواب على السؤال المذكور)، فالسؤال المذكور الذي سألناه عن الكبائر وأنواعها، ولماذا كان الشرك أكبرها وأعظمها وأخطرها؟ فيقول: (حقيقة الشرك مما تقدم) يعني: تبين لنا، قاعدة مهمة نستنتجها مما تقدم وهي: أن حقيقة الشرك هي التشبه بالخالق، وتشبيه المخلوق به، هذا أوجز ما يمكن أن يقال في حقيقة الشرك، ومعرفة لماذا كان هو أعظم الذنوب وأعظم ما عصي الله تبارك وتعالى به؟ الشرك هو التشبه بالخالق تبارك وتعالى، أو تشبيه المخلوق به تبارك وتعالى، هذا هو التشبيه في الحقيقة لا إثبات صفات الكمال.

يريد ابن القيم رحمه الله تعالى أن يرد على الذين نفوا الصفات، قالوا: حتى لا نقع في التشبيه، مثلما تقدم معنا في صفة العلو مثلاً، وموضوع الرؤية والكلام، وغيرها من مباحث الصفات التي شرحناها والحمد لله.

فالعلة واحدة عند الذين ينكرون صفات الله تبارك وتعالى من الجهمية والمعتزلة والأشعرية وغيرهم، أنهم يقولون: لو أثبتنا الصفات لوقعنا في التشبيه، فنقول: أنتم لا تفهمون حقيقة التشبيه، التشبيه الذي هو الشرك عكس ما تظنون، التشبيه هو تشبيه الخلق بالخالق، لا كما تظنونه إثبات صفات الله، أما تشبيه الخالق بالمخلوقين، كمن يقول: إن الله له يد كيد المخلوقين، أو يقول: إن الله له سمع كسمع المخلوقين، أو يستوي كاستواء المخلوقين، هذا وقوعه في العالم قليل.

الله تعالى فطر النفوس على أن هذا غير موجود وغير حاصل، ووقوعه قليل وإن وقع فهو مما ينكر، ولا شك أنه مناف للتوحيد لا ريب في ذلك، لكن هم لا يقصدون ذلك، يقصدون إثبات الصفات، والسلف الصالح والحمد لله يثبتون الصفات لله تبارك وتعالى كصفات المخلوقين، ولكن يقولون: كما قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١].

يثبتون السمع والبصر وجميع الصفات مع إثبات أنه ليس كمثله شيء وليس له كفواً أحد، وهل تعلم له سمياً، وإن وقع الاشتراك اللفظي في الاسم فالحقيقة غير الحقيقة، كما أن الوجود غير الوجود، والذات غير الذات، متفقون معنا أن ذات الله تبارك وتعالى لا تشبهها ذات، وأن وجود الله تبارك وتعالى لا يماثله وجود، إذاً: فبقية الصفات تتبع الذات، وتتبع صفة الوجود المجمع عليها، وهذا مذهب واضح والحمد لله، منهج رحب واضح سهل الفهم، ولا ينكره إلا مكابر، لكن ليس هذا، وإن زعم من زعم كـ الرازي وأمثاله ونسبوه إلى رجل لا عقل له ولا نقل، وهو المنجم المشهور أبو معشر الفلكي منجم من المنجمين، كان في الإسلام لا يعرف له فضل ولا خير وسابقة ولا دين، هو الذي يقول: إن أول شرك وقع هو أن الناس اعتقدوا أن الله سبحانه وتعالى له يد كيد المخلوقات، وله عين كعين المخلوقات، فعبدوا الأصنام.

هذا كلام فارغ، ومغاير للحقيقة وللواقع التاريخي، ولما صحت به الأحاديث، وبالعكس: الذين عبدوا الأصنام شبهوها بالله، ولم يشبهوا الله بالأصنام، هذا هو الواقع.