للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إن الحسنات يذهبن السيئات]

أما قول الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود:١١٥] هذه الآيات نزلت في رجل من الأنصار اجتمعت فيه الحسنة والسيئة كحال أكثر الخلق، كان يبيع التمر فأتته امرأة فراوده الشيطان عليها, فقال لها: عندي في البيت ما هو أجود منه، فهلمي إلي, فذهبت معه فلما خلا بها قبلها, ولم يفعل الفاحشة؛ لكنه فعل مقدماتها, وسرعان ما أفاق كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:٢٠١] فترك السوق, وذهب إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: يا رسول الله! وقع مني كذا، إلا أني لم أفعل الفاحشة فماذا أصنع؟ كان الرجل متأثراً وعرف كيف أوقعه الشيطان وتلاعب به, ثم إنه جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرض عليه الموضوع بنية التوبة، وأدرك صلاة الجماعة مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أصليت معنا؟ قال: نعم، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الحسنات يذهبن السيئات} فأنزل الله عليه هذه الآية, وغفر له بمجيئه إلى المسجد مع الندم والتوبة وعرضه ذلك على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سبيل أن يبحث له عن مخرج، فدل ذلك على أن الحسنات إذا فعلها الإنسان فإنها تكفر عن الإنسان, ولا سيما اللمم: {إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:٣٢] وهذا اللمم فسره كثير بمثل؛ البسمة, والقبلة, وكلمة الغيبة التي لا يخلو منها إنسان إلا من رحم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعفو ويغفر اللمم بالمداومة على الطاعات والحسنات, ومن ذلك كثرة الخطا إلى المساجد, وانتظار الصلاة بعد الصلاة, فإذا قال إنسان: سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر -وكذا إذا قال:- لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة.

فعندنا مطهرات, فنحن لا نخلو من الدرن مثل الإنسان عندما يمشي في الشارع وتمر من جنبه دراجات فيصيبه الوسخ؛ فيرجع إلى البيت فيرى بقع الوسخ في ثوبه, فيغسله بالصابون والمطهر, وكذلك الاستغفار يذهب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به الذنوب والخطايا {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:٥٣] بالتوبة والاستغفار، ومن ذلك فعل الحسنات {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:١١٤] فلم نخلق نحن لنظل صفحة بيضاء لا نخطئ، ونحن إن لم نخطئ فسنقصر في الواجبات, فالمعاصي لازمة, لكن دواؤها بالتوبة, وأعجبتني كلمة قرأتها لـ ابن الجوزي رحمه الله.

قال له رجل: أيهما أفضل لأصحاب الذنوب: الذكر أم الاستغفار؟ فقال له: 'الثوب الدنس أحوج إلى الصابون منه إلى البخور' فقد جعل الاستغفار كالصابون بمعنى أن الإنسان إذا فعل المعاصي فأهم شيء هو أن يتوب ويندم ويستغفر، بخلاف ما لو فعل الإنسان الطاعات فهذا يذكر الله ويسبح الله.

والاستغفار أدعى للمحاسبة حيث يفكر العبد في الذنب الذي يستغفر منه فلا يعود إليه, والإيمان يزيد وينقص, والنفوس تتفاوت في الغالب, فالواجب على الإنسان أن يحاسب نفسه.

{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:١١٤] فيجتمعان على مذهب أهل السنة والجماعة في الإنسان ويمكن أن يجتمعا في كل إنسان إلا من عصمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الرسل.

يقول الإمام المصنف رحمه الله: 'وقد دلت الآيات السابقة آيات القصاص وآيات القتال وآيات من كانت له مظلمة' هذه النصوص تدل على أنه في حالة يعمل حسنات تمحو تلك السيئات، وأنه يجتمع فيه عمل الخير مع المظلمة, والعمل الصالح مع المظلمة، وكذلك -كما في الحديث الآخر- تجتمع الصلاة والصيام مع الشتم والضرب والقذف, وكذلك في آية هود تجتمع الحسنات مع السيئات فمن الممكن أن يأتي بهذه وتلك وهو لا يزال في حدود الإسلام، وما يزال من أهل الملة, فهو يخطئ ويصيب ولكنه لم يخرج من دائرة الإسلام إلى دائرة الكفر.