هناك أمثلة من اليقين في امتثال الأمر -مثل- بلال وعمار وغيرهم لما عذبوا -رضي الله عنهم- فتوضع الصخرة في حر مكة في الرمضاء على بلال وعلى صدره وهو يقول:[[أحدٌ أحد]] يوحد الله تبارك وتعالى، فهذا من يقينه رضي الله عنه، وهناك أمثلة أخرى عجيبة من هذا، عندما يقتل الرجل منهم أخاه، أو أباه، أو قريبة، في ذات الله، فما فعل ذلك إلا لأنه موقن في أن هذا عدو لله، وموقن بأن الله سبحانه أمره بأن يبرأ من الكافرين، وموقن بأنه لا ولاية ولا صلة بين المسلمين وبين الكافرين، وموقن أن من قاتل وقتل في سبيل الله فإن جزائه الجنة، فهذا أيضاً نتيجة اليقين.
وكذلك حين قُبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهتزت القلوب وارتجفت، حتى عمر رضي الله عنه قال:[[ما مات؛ بل رفعه الله إليه]] فاضطرب أمره رضي الله عنه، فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: [[يا عمر، أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام، وتلا عليه الآية:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران:١٤٤]]] فأيقن عمر.
ولما ارتدت العرب قاطبة وكان الموقف كما علمنا من عمر رضي الله عنه وبعض الصحابة، نجد اليقين عند أبي بكر يقيناً عجيباً جداً، حتى إنك تتعجب كيف أنفذ جيش أسامة إلى أقاصي الروم وقد ارتد أكثر العرب من حوله, وجيش أحد عشر لواءً يبعثها، كلاً منها يبعثه إلى ناحية من النواحي، ليعيدوا الناس إلى هذا الدين، فهذا يقين بأن الله سبحانه سينصر هذا الدين، وأن ما أخبر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق، وأنه مهما كانت الهزة ومهما كانت الصدمة، فإن النصر والغلبة بإذن الله ستكون لهذا الدين.
ونستطيع أن نقول: إن حياة الصحابة -رضي الله عنهم- كانت كلها يقيناً مثلاً: لما حرم الله تبارك وتعالى الخمر، وسنضرب المثل بها لأنها ليست كالسرقة، وليست كالزنا، فالأمر يتعلق بالإدمان، ومن يعرف ومن يسأل ويرى المدمنين -نسأل الله العفو والعافية- يجد أن أصعب، وأشق شيء على النفس أن تتخلص من عادة الإدمان، ولهذا لو قلت لإنسان مدخن: نقطع عنك الرز واللحم لما تأثر، ولو قلت له نقطع عنك التدخين فلن يقبل لأنه ليس لديه يقين، وهذا ليس إدمان تدخين، بل إدمان خمر، فلما أنزل الله تبارك وتعالى تحريم الخمر ماذا فعل الصحابة رضي الله عنهم؟ أراقوها، ولما قال:{فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}[المائدة:٩١] قالوا: [[انتهينا ربنا، انتهينا ربنا]] فأراقوها -بلا تفتيش ولا رقابة ولا شرطة ولا هيئات- هم بأنفسهم، فحين أنزل الله تحريمها.
أيقنوا بذلك فقالوا:[[انتهينا ربنا]] فأراقوها حتى جرت السكك في المدينة بها.
فإذا انتفى اليقين تكون الحالة كما جرى في أمريكا، فقد حدثت قصة عجيبة استمرت في العشرينات وأوائل الثلاثينات من هذا القرن، وذلك عندما قررت أمريكا، أو قرر عقلاؤها إصدار أمر بتحريم الخمر؛ لأنها ضارة، ولا شك أنها تفسد الرجل الحليم كما قال أهل الجاهلية.
فقالوا: لا بد من تحريمها، وجندوا النشرات والإعلانات والدعايات بجميع أنواعها، ورصدوا لها الملايين، والجنود والمفتشين، وكل ما تتصوره أمريكا، فحين تعزم أمريكا على شيء وتقرره، يكون حالها كما قال تعالى {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}[الشعراء:١٣٠] فإذا قررت شيئاً فإنها تتحرك وتتابع وتحقق وتعقب وكل ما يتخيله الإنسان من نظام ودقة، فما الذي حدث؟ اضطروا وأرغموا هم بأنفسهم أن يتراجعوا عن هذا القرار بعد ثلاثة عشر أو اثني عشر سنة، وألغوا هذا القرار، لأنه لم يستجب الشعب لهم، بل زادت المصانع وتحولت إلى مصانع سرية، وشربت أنواع رديئة، وكله رديء، لأنه لا يخضع لمواصفات معينة، فقالوا: انتشرت الأمراض، والقتل، والدمار، والخسائر، فما كان منا إلا أن سمحنا بعودتها، فعادت كما كانت، وللشعب أن يشربها كالماء -والعياذ بالله- فأمة لا يقين لها حالها {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}[الفرقان:٤٤] فمن لا يقين له هكذا حياته.