[الحكم الشرعي متعلق بفهم الواقع]
السؤال
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في إعلام الموقعين عند شرح كتاب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: 'ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم، أحداهما: فهم الواقع والفقه فيه، والثاني: فهم واجب الواقع ' إلخ.
ولعلكم تشرحون لنا هذا وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أظنه لا يحتاج إلى شرح، لأن هذه مشكلة، أن تتكلم عن البدهيات، فينبغي للمسئول أو لمن يتكلم أن يربأ بعقول السامعين عن ذلك، فأحياناً لا يمنع الإنسان من الكلام في موضوع إلا بداهته، فمسألة معرفة الواقع وأهميته قضية بدهية لا نستطيع أن نحصي الأدلة عليها.
وهو أن الإنسان لا بد له مع معرفة الدليل أن يعرف الواقع ليقيم الدليل فيه، فعندما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأوامر كثيرة جداً في القرآن، إن لم تعرف الواقع لا يمكنك أن تقيمها، فأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأمة -مثلاً- بقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:٢] فهذا الحكم كيف ينفذ، فإنه لا يعرفه إلا من عرف واقع الحال، فهل هو زانٍ أو غير زانٍ؟ وما حقيقة الزنى؟ وهكذا في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:٣٨] فلا بد أن تعرف الواقع والقضية وتتصورها لتحكم بالآية {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:٢] ما معنى ذوي عدل منكم؟ لا بد أن تعرف من هو العدل، ولا بد أن تعرف حقيقته وهل هو من ذوي العدل أو ليس من ذوي العدل؟ وهكذا حتى في المحرمات الجليلة الواضحة -فمثلاً- الله تبارك وتعالى حرم الخمر، فإن لم يكن الإنسان يعرف الخمر فكيف يفتي! ولهذا انظروا إلى الأشياء التي فيها اشتباه تجدوا أنه يشكل على العلماء أن يجيبوا عليها، فمثلاً: لو سألوا عن الكلونيا: ما حكمها؟ لقال بعضهم: تبين لي أنها مسكر وأنها خمر فهي حرام، وبعضهم يقول: لا.
فيها نسبة قليلة، وبعضهم يقول: ليس فيها شيء، فكل أجاب بحسب معرفته لواقعها أو بحسب واقع هذا الشيء فهكذا لا يمكن معرفة أي شيء إلا بمعرفة واقعها.
أما الأدلة والنصوص، فهذه الكتب موجودة، وهذا كتاب الله وهو أعظم كتاب، وكتب الأحكام الفقهية ملأت الأرض والحمد لله، فمن الممكن أن يحفظها بعض الناس عن ظهر قلب، ويكون كما قال بعض العلماء: زادت في البلد نسخة.
فإن قيل له: إن فلاناً يحفظ كتاب سيبويه أو كتاب كذا، لقال: زادت في البلد نسخة، وهذه نسخة زايدة فقط، لماذا؟ إن لم بنبن على هذا الحفظ حفظ الأدلة ومعرفة الواقع الذي هو تحقيق مناط هذه الأدلة، لا يصلح الأمر.
فإذا جاءك رجل مثلاً وسألك عن أمر من الأمور وخاصة مما يتعلق بأحوال الناس، فإن لم تكن تعرف واقع المسئول عنه أو واقع السائل، فقلما تصيب، فلا بد من إقامة الأدلة كما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وذلك أن تنزَّل منازلها كما أمر الله تعالى وكما شرع، فكيف نعرف الظالم من العادل؟ وكيف نعرف البر من الفاجر؟ وكيف نعرف الحلال من الحرام؟ إلا بمعرفة الواقع، وليس المقصود من ذلك أن الإنسان يحيط بكل أمور الواقع فليس كذلك، لكن أمامنا أمران أو حلان: الأمر الأول: أنه يجب على المفتي كما ذكر هنا الشيخ ابن القيم رحمه الله تعالى أن يستطلع ما استطاع من أمور الواقع ليعرفها، ولهذا كان بعض الفقهاء ينزل إلى الأسواق ويرى كيف يتبايع الناس ليفتي.
فقد يأتيك إنسان ويقول لك: ما رأيك في شرائي أرضاً بالتقسيط من أحد الناس فماذا تفتيني؟ فهل بسرعة تقول: يجوز أو لا يجوز، إذا كنت تعرف أن هذا حيلة، وأن هذا كذا، وتعرف واقع الناس لتفتي في محله، وحتى تكون فتوى في محلها، أما إن أخذت بظاهر القول فربما تحرم حلالاً أو تحلل حراماً، وهكذا ينبغي لمن تصدر للدعوة والعلم والإفتاء أن يلم بالواقع ما استطاع.
الأمر الثاني: إن كل إنسان لا يستطيع أن يلم، بكل شيء فهذا أمر طبيعي، فقبل أن تفتي في مسألة، اسأل أهل الخبرة فيها وأهل الشأن، ولهذا كان عمر رضي الله عنه يجمع أهل الشورى، وهو أعلم الناس بالأدلة، وفقه عمر رضي الله تعالى عنه من أوسع وأعظم أبواب الفقه.
فيكفيكم أن تعلموا أن ما عند ابن عباس من العلم وكثير مما عند ابن مسعود وغيرهما رضي الله تعالى عنهما أخذاه من عمر ومن فقه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ومع ذلك تنزل به النازلة، فيجمع أهل الشورى ويسألهم عن هذه الواقعة، فإن كانت من أمور الجهاد، فلا يفتي فيها بسرعة، حتى يسأل أهل الجهاد وأهل الخبرة في الجهاد، فإن كانت من أمور المال سأل أهل المال.
فكثير من الأسئلة التي يسألها الناس لو سألت من يعمل في البنوك لأراحك، لأنه يقول لك مثلاً: الاعتماد البنكي حقيقته كذا، وكذا، والتأمين حقيقته كذا وكذا، والقرض القصير الأجل كذا، والطويل الأجل كذا، فتكون الفتوى فعلاً في محلها.
إذاً نسأل أهل الخبرة، وهذا معلوم ليس بجديد، فهو معلوم من عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الآن، وأعني به الاستعانة بأهل الخبرة في شأن ما، ولهذا فرح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال القائل: {إن هذه الأقدام بعضها من بعض}؛ فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ بقوله؛ لأنه صاحب خبرة في القيافة وفي معرفة من يلحق بالنسب، فاستعان به وفرح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسره ذلك, واستشار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مواقف كثيرة من أجل هذا الشيء، وهذا أمر مقرر من سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فمثلاً لما جاء فقهاء الكوفة كان مذهبهم بالنسبة للأشربة خاطئ، حتى إن الإمام أحمد رحمه الله تعالى كتب من أجل ذلك كتاب الأشربة رداً عليهم، وفقهاء العراق، وأهل الكوفة كانوا لا يرون الخمر إلا ما كان من العنب، وأفتوا بذلك في أواخر عهد الصحابة رضي الله تعالى عليهم، فرد عليهم أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه كما في الصحيحين رداً عظيماً جداً، لأنه كان من صغار الصحابة وعاش حتى أدرك هؤلاء.
قال: [[لقد نزل تحريم الخمر، وما في المدينة عنبة، وإنما كان الخمر من كذا وكذا]] فقد رد عليهم بعلم الواقع، فهو يقول: ليس في المدينة عنب فإنه لما حرم الله الخمر وأراقها المؤمنون وجرت في سكك المدينة لم يكن عندنا في المدينة عنب، وإنما كان التمر والشعير وأمثالها، فهذا الرد من أقوى أنواع الردود في إبطال مذهب أهل العراق، في دعوى أن الخمر فقط ما كان من العنب، وأن غيره يقاس عليه، وهكذا يكون الاستدلال بالواقع المعاصر.
ولما قيل في حديث الحمام: إنه موضوع قالوا ذلك، لأنه لم يكن في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمامات، وكذلك لما قالوا: حديث أجرة الطحان أيضاً، قالوا: الحديث ضعيف، أو موضوع، أو موقوف، فليس من كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث أنه لم يكن في عهده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يطحن ويستأجر.
وغيرها من الأشياء التي لا أستطيع أن أحصرها، فلو كتبت رسالة دكتوراه في ذلك لتبين من كثرة الشواهد والأدلة على أن معرفة الواقع أمر ضروري لا بد منه في الفتيا وفي الحكم.
أما أن الإنسان يفتي فتوىً مجردة فلا بأس.
فعلينا أن نُفرق بين من يقول: أنا وجدت أن الخمر حرام، ويفتي بفتوى الأدلة، وبين من يقول: هذا حلال، أو حرام في هذه القضية النازلة وهو لا يعرف حقيقتها، فهنا يكون التقصير في هذه القضية الواقعة.
أما القول بفتوى عامة فلا بأس، ولذلك تجد العلماء والمفتين -جزاهم الله خيراً- لو سئلوا هل هذا العمل حرام أو حلال؟ فإنهم يعطونك القاعدة بقولهم: إن كان كذا فهو حرام، وإن كان كذا فهو حلال، لأنه لا يعرف الواقع فأعطاك القاعدة، وأنت طبق على الواقع، لكن لو كان يعرف الواقع لما احتاج أن يقول لك: كذا وكذا ولاكتفى أن يقول: هذا حرام، أو هذا حلال وهكذا.
وحتى المصطلحات تختلف -وهذا أيضاً من فقه الواقع- ففي أصول الفقه مصطلحات للحنفية غير مصطلحات الأئمة الثلاثة، وأحياناً مصطلحات الأصوليين عامة غير مصطلحات أهل الحديث عامة، فهذا مصطلح وهذا مصطلح.
كما أن مصطلح بعض البلاد غير تلك البلاد؛ فالكلمة بالعراقي لها معنى غير الكلمة بـ المدينة ولذلك لو وجدنا فتاوى من علماء العراق كتلاميذ عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وأمثاله، لوجدنا أنها غيرها -مثلاً- في المدينة أو في مصر ويكون لها معنى آخر وهكذا.
فإذاً: لابد من معرفة الواقع، ومعرفة اللفظ، ومعرفة المدلول.
فهذه أظن أنها أجلى من أن نحتاج أن نتكلم فيها، ومن سوء حظ هذه الأمة -والله المستعان- أننا وصلنا إلى حالة من الانحطاط الفكري وضيق النظر وضيق الفهم، فأصبحنا ننازع في البدهيات وأصبحت البدهيات موضع مناقشة وإلى إثبات وتحتاج إلى أدلة، والله المستعان.
مثل هذا الكلام تماماً قاله فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم وغيره من العلماء الذين كانوا يشترطون في القاضي أن يكون بصيراً وعارفاً بواقع الناس وأحوالهم، ولهذا اختلف العلماء: هل يجوز أن يتولى الأعمى القضاء؟ مع أن الراجح أنه يجوز، لكن هذا خلاف قديم موجود في كتب الفقه القديمة لماذا؟ قالوا: لأنه قد لا يبصر، وقد يكون الأعمى من أعلم الناس، هذا معروف قديماً وحديثاً، لكن القضاء غير الفتيا، فكيف يقضي وهو لا يتصور بعض الأمور، ولا يراها ولا يعرف طبائع الأشياء مثلاً؟! فهذه وجهة نظر من قال بذلك.