[من مظاهر الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم]
وهذا الغلو في الحقيقة له أسباب كثيرة، نذكر منها ما يلي: أن بعض أولئك الذين غلوا في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من مؤسسي الطرق ومدعي الكرامات وغيرهم، إنما أرادوا بذلك التوصل إلى تعظيم أنفسهم، أو مشايخهم وقدواتهم، ولهذا قال من قال من السلف: الناس يعبدون الله وهؤلاء يعبدون أنفسهم أو يعبدون الخلق لأنفسهم، ويطلبون حظ النفس ومتعة النفس فيما يعملون.
حتى محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطلبون بها حظ النفس من الشهرة، ومن الكرامات، ومن الخوارق وما أشبه ذلك، ولهذا وضعوا قاعدة معروفة عندهم، يقولون: كل ما ثبت للنبي معجزة فهو ثابت للولي كرامة، فيدعون للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكثير من الخوارق والمعجزات، والكرامات، غير ما أعطاه ربه عز وجل من الآيات البينات والكرامات، يدعونها ليضيفوها إلى شيوخهم فيما بعد، وليثبتوها له.
فإذا اعترض معترض لماذا تنسبون هذا للشيخ؟ قالوا: هذا قد ثبت للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأكثر الجهال يثبت ذلك ولا يعارض خشية أن يقال: أنت تنتقص مقام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه التهمة التي دائماً يتهمون بها أهل الحق -كما سنرى إن شاء الله فيما بعد- فيسلم لهم أن هذا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقولون: هو ثابت للأولياء الوراث -يسمونهم الوراث- وارثوا الحقيقة المحمدية كما يزعمون، هذا سبب ولا نطيل فيه.
السبب الثاني: هو التأثر بـ الرافضة قاتلهم الله، فإن الرافضة في غلوهم في حق علي رضي الله عنه، مع الصراع التاريخي المزمن بينهم وبين أهل السنة انتشر وباء التصوف والغلو في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مقابل غلو أولئك في علي رضي الله عنه.
فالمسألة أصبحت ردود فعل من العامة، وعواطف جيَّاشة لا تستند لا عند هؤلاء ولا عند هؤلاء على الدليل العلمي الصحيح والبرهان.
ولهذا آل الأمر إلى أن أسبغوا من أوصاف الألوهية وخصائصها للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مثل ما تسبغ الروافض على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وعلى آل بيته، والصلة بين التصوف والتشيع حقيقة قائمة يشهد بها التاريخ ولا سيما تاريخ الفرق، وليس بإمكاني الآن أن أوضح ذلك أو أن أطيل فيه.
والمقصود أن هؤلاء لما وقعوا في ذلك ناقضوا كتاب الله وصحيح سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فمثلاً: قول الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف:١١٠] هناك كثير من الأدلة على أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشر، وإن أردتم التمثيل فلنذكر مثلاً: فرقة البريلوية.
يقولون: إننا نحن أهل السنة ومعاشر المسلمين نقرأ الآية بخلاف ما أنزل الله، فإن القراءة الصحيحة لها أن نقول: (قُلْ إِنَّ مَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) فهو تأكيد لنفي بشريته، يقولون: الآية تؤكد (إن) توكيد النفي (ما أنا بشر مثلكم) أي: فهو فوق البشر، وأمثال ذلك مما يحدثنا به كتاب الله سبحانه، ومثلاً قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم وإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله} كما تقدم من حديث عمر.
هذا القول وهذا النهي منه صلى الله عليه وسلم ضربوا به عرض الحائط، فغلوا فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غلواً عظيماً فاحشاً، وما أكثر ما نسبوا إليه من خصائص الألوهية، فجاروا بذلك وخرجوا من الملة.
مثلاً: ينسبون إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن بيده مقاليد السماوات والأرض، وأن له أن يقطع من أرض الجنة كما يشاء، وقالوا: إنه يعلم الغيب، وإنه يعلم سر الروح وحقيقة الروح، وإنه يعلم متى تقوم الساعة، وأنه يعلم الخمس التي ذكرها الله سبحانه في كتابه وهو مختص عز وجل بعلمها.
يقولون: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مطلع على ذلك وعالم بما فيه، كيف وقد قال قائلهم:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
فماذا بعد هذا الغلو من غلو نعوذ بالله من الضلال؟ فهكذا غلوا فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم يزعمون ويظنون أنهم بذلك يحبونه ويعظمونه.
السبب الثالث: ومن ذلك أيضاً من ما خالفوا به هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مثلاً: ما ثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زيارة القبور، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} وقال في الحديث الصحيح الآخر: {لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى}.
فخالفوا أمره وناقضوه أعظم المناقضة، وشرعوا شد الرحل لزيارة قبره وفرضوه فرضاً، وقالوا: إنه وإن كان سُنة عند الفقهاء فمن زار مسجده صلى الله عليه وسلم، فإن زيارة قبره وشد الرحل إلى قبره عند الصوفية فرض، وأفردوا كتباً وافتروا أحاديث كثيرة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقَّولوا عليه ما لم يقل، وما أكثر هذه الأحاديث، وقد ذكرها العلماء وجمعها المؤلفون منهم في الأحاديث الموضوعة، ولم يكتفوا بهذا بل شرعوا لمن زاره ولغير زائر قبره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يستغيث به، وأن يدعوه، وأن يستجير به، ورتبوا لذلك أموراً، وهذا من أعظم الشرك؛ لأن كفر الجاهليين وشركهم إنما كان لأنهم يدعون غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويستغيثون به ويستجيرون به.
فأوقعوا هذه الأمة المحمدية في نقيض ما دعا إليه رسول التوحيد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أنه يدعى ويستغاث ويستجار به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجعلوا لذلك أوراداً وصلواتاً وأحزاباً كثيرةً جداً، مثل جامع الصلوات الذي جمعه النبهاني، فلا تكاد تجد فيه أي صلاة من تلك الصلوات إلا وفيها الشرك الصريح، وفيها الحلول، وفيها الاتحاد، وفيها وحدة الوجود.
كقولهم: إنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنسان عين الوجود، والسبب في كل موجود، وأنه مظهر وتجلي لصفات الله سبحانه، وغير ذلك مما وضعوه، وكما وضع البكري -وهو من أقطابهم المتأخرين قبحه الله- ذلك أشعاراً تردد وتنشد في الموالد وغيرها، كقصيدة اللامية التي ضاهت البردة في الشركيات، التي قال فيها:
ما أرسل الرحمن أو يرسل في ملكوت الله أو ملكه من كل ما يختص أو يشمل
ولا ورى من قادح زنده إلا وطه المصطفى عبده نبيه مختاره المرسل
وهو لما يقضي نيلها واسطة فيها وأصل لها يعلم هذا كل من يعقل
وعندما تزعج من مزعج فلذ به في كل ما ترتجي فهو شفيع دائماً يقبل
وعُد له صبحاً وعند العشي وعذ به من كل ما تختشي فإنه المأمن والمعقل
وليقل المكروب في كربه يا أكرم الخلق على ربه وخير من فيهم به يسأل
يقدم فيهم شافعاً كرة قد مسني الكرب وكم مرة فرَّجت كرباً بعضه يذهل
وأنت إن ناهضته مغمراً فبالذي خصك بين الورى برتبة عنها العلا تنزل
فحيث كنت الطب من مهلكي عجِّل بإذهاب الذي أشتكي وإن توقفت فمن أسأل
نسأل الله السلامة والعافية، أين الله إذا كان فإن توقفت فمن ذا أسأل، ورتبوا أنشودة مثل هذه الأناشيد أو حتى عند زيارة القبر أوراداً معينة يأتي الإنسان إلى القبر ثم يستقبله ثم يرفع يديه ويدعو ثم يتوب من الذنوب، ثم يقول بعد أن يدعو الأدعية التي يشرعونها:
يا رسول الله قد ظلمت نفسي ظلمًا كبيراً
وأتيت بجهلي وغفـ ـلاتي أمرًا كبيرًا
وقد وفدت عليك زائرًا وبك مستجيرًا
نسأل الله العفو والعافية، ويزعمون أنهم بهذا يُتَوِبون أصحاب المعاصي من المعصية وهم يوقعونهم في الشرك الأكبر الذي تهون معه كل المعاصي، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨].
فلو حققوا التوحيد لشملتهم مشيئة الله تعالى بالمغفرة بأن لا يعذبهم أصلاً، وإما بأن يعذبهم ثم يخرجهم من الجنة، أما من أتى بهذا الشرك الذي يلقنونه إياهم فإنه خالد مخلد في النار كما توعد الله به المشركين نسأل الله العفو العافية.