إن الشرك والضلال والانحراف الذي وقع في الجاهلية الأولى، ومن بعدهم إنما وقع نتيجة الابتداع في دين الله تعالى.
كانت العرب على دين التوحيد منذ أن بنى إبراهيم الخليل وإسماعيل البيت الحرام، حتى ظهر رجل يقال له: عمرو بن لحي الخزاعي، هذا الرجل ذهب في رحلة إلى الشام، فوجد أُمّةً متحضرة ليست مثل العرب تسكن الخيام وترعى الغنم والإبل، وجد هناك حضارة، وأنظمةً، وملكاً، وأبهةً، فغرته تلك المظاهر، ثم تأمل في دينهم فوجدهم يعبدون الأصنام، إذ أنهم يصورون الصور، ويضعونها في الكنائس كصورة عيسى عليه السلام، وصورة مريم العذراء، وغيرها من الأنصاب والتماثيل، ثم يعبدونها من دون الله، فاستحسن هذا الأمر، لأنه صادر عن أمة متحضرة وليست كالعرب.
فأخذ هذه الصور وجاء بها إلى مكة ووضعها العرب بالكعبة، ولهذا رآه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث الصحيح:{وهو يجر قُصبه -يجر أمعاءه- في النار} عافانا الله وإياكم، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{وكان أول من سيب السوائب} التي قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}[المائدة:١٠٣] فهذا كان أول من افترى على الله الكذب، وسيب السوائب، وابتدع هذه البدعة في الإبل: البحيرة، والوصيلة، والحام، هذه الإبل جعل لها علامات معينة تنذر للأصنام، فجاء بالأصنام وأدخل الشرك إلى بلاد العرب، وجاء بهذه البدع ليجعلها قربات إلى الأصنام، فكان هذا الرجل أول من غير ملة إبراهيم عليه السلام من التوحيد إلى الشرك، فحذر منه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
بل جاءت رسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصحيحاً للشرك الذي وقع فيه العرب بعد أن كانوا على ملة التوحيد، فمن جاء ليصرفنا عن ملة التوحيد، التي وحدنا الله تبارك وتعالى بها بعد الفرقة، وجمعنا بها بعد الشتات، وأنار بها قلوبنا بعد الظلمة، فلا طاعة له، لأن محمداً صلى الله عليه سلم ليس إمامه وقدوته، وإنما إمامه وقدوته عمرو بن لحي.
ولا تستغربوا أن يظهر في كل أمة، أو في كل فترة عمرو بن لحي جديد؛ لأن من السنن الكونية أن يظهر صاحب الشرك؛ فيظهر أصحاب التوحيد، ويظهر الباطل، فيظهر الحق وهكذا، فرعون قال -كما حكى الله عنه-: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}[النازعات:٢٤]، ومات هذا الفرعون وانتهى، لكن في كل زمان ممكن أن يظهر فرعون جديد وإن لم يسم نفسه فرعون، وإن لم يقل:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}[النازعات:٢٤] فكل من بدل دين الله، وغير شرعه، وجعل الناس يعبدونه من دون الله، فهو في عمله هذا كفرعون.
ولهذا فقدوة أصحاب البدع والضلال هم قوم نوح الذين غيروا دين الإنسانية من التوحيد إلى الشرك، ثم عمرو بن لحي الذي غير ملة العرب من التوحيد إلى الشرك.
أما حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله} فإن معناه أن كل من يأتي ويدعو إلى أية بدعة من البدع فإن دعوته خاسرة، فإن هذه الطائفة المنصورة سينصرها الله تعالى عليه.