[تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه]
القسم الأول: تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه)، أي: تعطيل الخلق عن الخالق، هذا أول نوع من أنواع التعطيل: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:٣٥] مخلوقات أمام أعيننا يدعون أن لا خالق لها، عطلوها عن خالقها تبارك وتعالى، لذلك فالذين يشركون بالله من الشيوعيين أو الملحدين، أو الغربيين، لابد أن يجعلوا خالقاً غير الله، وفي اللفظ يقولون: هذه لا تحتاج إلى خالق، لكن في الحقيقة لابد أن يفترضوا خالقاً أو موجداً ما؛ لأنه لا يمكن الأمر إلا بذلك، ما الذي جعلهم يهربون من افتراض وجود خالق؟ لأنهم إذا قالوا: الله أو الرب، فالمقصود به عندهم هو ذلك البابا، صاحب الكنيسة المكون من ثلاثة أقانيم، الذي تجسد في شكل إنسان وصلب على الصليب، ثم صعد إلى السماء، أفذاك هو الذي خلق السموات والأرض؟ هذا غير ممكن القول به، إذاً هل من الحل أن يقال: ليس لها خالق؟ كأنه أسهل في نظرهم أن يقال: ليس لها خالق، وخاصة إذا كان هذا الرب الذي تذكره الأناجيل المحرفة ويدعي البابا وأتباعه الإيمان به مقرون بالعنف، بالقوة، بالسيطرة، فإذا خالفت أي شيء من كلام رجال الدين فأنت كافر، زنديق، حلال الدم والمال، فهربوا من ذلك إلى الإلحاد.
فلما هربوا من إثبات الإله والرب صاروا معطلين.
لكن هل غابت القضية عن أذهانهم ونسوها ولم يفترضوا خالقاً؟ افترضوا فقال بعضهم: الطبيعة، يقول: هذا الكون الذي أمامك هو الطبيعة! لكنا ما استفدنا شيئاً من كلامكم! لأن معناه أن هذا المخلوق هو الخالق! فالطبيعة أوجدتها الأشياء، وهذه الأشياء هي الطبيعة، فلم نستفد شيئاً، إذاً أين الرب الذي خلقها؟! وهم إنما يقولون ذلك ليهربوا من إثبات هذا الدين.
قال بعض الفلاسفة اليونانيين القدامى: العلة الأولى.
ولهذا لما جاء العلم الحديث أنكروا المنطق كله بعلله وبلاياه، ولا يؤمنون به ولا بكلام أرسطو ولا أفلاطون، لا في التوحيد لا في الألوهية لا في الصفات تركوه نهائياً، إذاً: ماذا يسمى؟ بعضهم يقول: أنا أتوقف، وهذا حال كثير من الملحدين في العالم اليوم، أو الذين يسمون أنفسهم الربوبيون، الترجمة الصحيحة أن يقال: الربوبيون، وإن كان بعض المترجمة يقول: المؤلهون، في الحقيقة ليس تأليهاً وإنما هو ربوبية، يقولون: نؤمن بإله لكن لا نستطيع أن نتبع دينه -لأنه ليس له دين في نظرهم في الأرض- أو نتوقف، وهؤلاء الذين يسمونهم: اللاأدريين، أو الربوبيين، هذا موقفهم؛ لأنهم عطلوا المخلوقات عن خالقها جل وعلا ولم يؤمنوا به كما أمر تبارك وتعالى.
لكن عقولهم تلح عليهم أن لهذا الكون خالقاً، فبعضهم كأن الأدلة تكافأت عنده فقال: لا أدري، وبعضهم قال: لا، أثبته لكن على غير طريق الكنيسة، ولا يعرف له أي صفة من الصفات، إنما يقول: لابد من وجود إله، وهذه من آخر أو أحدث، النظريات الأخيرة جداً عندهم في علم الطبيعة أو الفيزياء، وهم منذ أربعين سنة تقريباً لا تجد عالماً متخصصاً في العلوم الطبيعية في أمريكا لا يؤمن بوجود إله، لكنه ربوبي وليس مسلماً، لكن المهم أنه لا ينكر، لماذا؟ لأن آخر النظريات التي منها نظرية الانفجار العظيم مضمونها أن قوانين الديناميكا الحرارية، وقوانين الهندسة الوراثية أو الجينات، وغيرها لا يمكن أن تتصور إلا من مدبر حكيم، العلوم الحديثة في نشأتها لا يمكن أن يتخيل أهلها أو يعقلوا أن هذا الكون نشأ إلا وقد أوجده وأنشأه خالق حكيم مدبر لا حد لحكمته ولا حد لتدبيره.
هكذا هم يقدرون ويصفونه من عند أنفسهم من خلال ما عرفوا من آثار هذه الصفات في خلقه، حتى إنهم عندما يتحدثون عن علم الجمال، الذي كان في القديم مجرد مبحث من مباحث الفلسفة العتيقة، الآن الحديث عن الجمال أصبح عند هؤلاء موجوداً دون أن يقال لهم من جهة أي أحد من المؤمنين، لكن هم قالوا: الجمال الذي في الكون يدل على أن له إلهاً في غاية الحكمة، وأن هذا الإله جميل، ولذلك يقولون: لو كان الغرض من الزهرة الأغصان إذا جردت عن الجمال فسيبقى هذه الألوان!! ألوان عجيبة جداً، فهم كما ترون عندما يصنع الإنسان أعظم وأدق الألوان، وتتعرض للشمس فترة من الزمن فإن اللون يتغير أو يبهت أو يضعف، خذ أقوى أنواع العطور وأغلالها وأثمنها وضع منه في الغرفة منه في اليوم الأول، ثم انظر غداً أو بعد غدٍ تجده قد زال، وهذه الأزهار الفواحة التي تتلون بأجمل الألوان هي في غاية النعومة والرقة، وفيها ألوان في غاية الجاذبية والجمال، والأشكال التي لا تكاد تخطر على البال، وتفوح منها هذه الرائحة الزكية طوال الأيام والليالي لا تنفد، مع أنها من ماء وتراب، لا يمكن إلا أن خالقاً خلقها وقدرها كذلك، فهم تعجبوا.
قالوا: حتى حبيبات الثلج الصغيرة جداً لما وضعوها تحت المجهر، وجدوا أن لها أشكالاً سداسية وأشكالاً ثمانية، إذاً: الإنسان المسكين ينظر من بعيد فيرى هذه الأشياء كأنها عبث، لكن عندما يدقق يجد فيها من الجمال والتناسق شيئاً عجيباً جداً، الإنسان الواحد منا عندما ينظر إلى الجبال يراها مختلفة بين جبل طويل وجبل قصير وأشكال مختلفة، ولو تجمع ألف حجر أو مليون فإن كلاً منها يختلف عن الآخر، والسبب في هذا أن هذا نوع من أنواع الجمال، نحن لا ندركه، كيف لا يدرك الإنسان الجمال؟! الإنسان عقليته بسيطة، يحب أن يرى شيئاً مربعاً، أو مثلثاً، أو مستطيلاً دائرة، الأشكال الهندسية المعروفة عندنا لأنها مبسطة، تفترض ضلعاً مربعاً هكذا، وفي الذهن تكمل الضلع الآخر والثالث والرابع، هذه عقلية مبسطة، لكن لو ارتقى الإنسان بعقله قليلاً لأصبح في شيء أكثر من هذا التبسيط، ثم أكثر ثم أكثر، حتى يجد أن موج البحر -كمثال- لا يستقر على شكل معين، وهذا غاية ما في الكون من جمال، وفيه دليل على أن لهذا البحر رباً يحركه كل لحظة، وهو الذي يديره سبحانه وتعالى، فتجد هذه الحركات المتغيرة وهذه الأشكال والألوان، فأينما نظروا كما ذكر الله سبحانه وتعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:٣ - ٤] تأملوا فوجدوا العجب العجاب! وجدوا أن أصغر ذرة في الكون عندما توضع تحت المجهر الذي ما عرفه الملاحدة في القرن الماضي أو في أول هذا القرن ممن كانوا يظنون أنهم حملة العلم، وجدوا أن هناك كهيربات، ومدار تدور فيه، ونواة، سبحان الله! فإذا تأملوا في الفضاء وجدوا أن هناك مدارات هائلة جداً، المدار هو المدار، الفرق أن هذا مداره في حيز لا يكاد العقل يتصور ضيقه، وهذا المدار يبعد ملايين الكيلومترات، وهل الفلكيون يعبرون فيقولون مليون كيلو مليون ميل؟! ليس عندهم هذا، عندهم مليون سنة ضوئية، يعني: السرعة محسوبة بسرعة الضوء، الضوء يقطع -كما جربوه هم تجربة عملية مع الزمن تقريباً نظرية تكاد تكون صحيحة مائة بالمائة- أنه يقطع ثلاثمائة ألف كيلو في الثانية، أسرع شيء في هذه الدنيا هو الضوء، يعني: أنت لو تكلمت وناديت شخصاً وعندك (كشافاً) ثم أضأت الكشاف يصل النور إليه قبل ما يسمع كلامك، وهذا مجرب، فالبرق يصل قبل صوت الرعد، فأسرع شيء هو الضوء.
لا يمكن أن يحسب الكون بملايين الكيلو مترات أبداً، إنما بملايين السنين الضوئية، ولما تعمقوا أكثر وأكثر أصبحوا لا يقدرون أن يحسبوا الملايين، فأيضاً اصطلحوا على اصطلاح هو (تليون) ليس هناك اصطلاح يجمع السنين الضوئية، المهم أنهم عجزوا وسأخبركم به بعد، لما قال الله تبارك وتعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [النجم:٤٩] الشعرى اليمانية، وهي نجم عظيم في السماء، وكل من يعلم الشعرى هذه لا شك أنه يؤمن بالله وبعظمة الله، رب هذا النجم والكوكب العظيم الذي في السماء، لكن الأولون أو بعضهم على الأقل كانوا يتخيلون أن الأرض هذه والسماء سواء، وأن هذه النجوم بعيدة وعالية، لكن إلى حد ما كأنها جبل، يعني: نفرض أن الشعرى مثل جبل أحد، لكن من بعدها نراها صغيرة، لكن الآن يقولون: الشعرى تبعد عن الأرض ستة ملايين سنة ضوئية، بمعنى آخر: يحدث انفجارات كبيرة جداً في بعض النجوم تتلاشى وتتحول إلى أشياء متناثرة في الفضاء، فلو انفجرت الشعرى وانتهت ودمرت فلا يعلم الناس أنها انفجرت ودمرت إلا بعد ستة ملايين سنة، لأنهم يظلون يرونها من شدة بعدها، فهذه حقائق مذهلة جداً، وهذا الكلام بالنسبة لعلومهم يعتبر عادياً جداً، يتعلمه أبناؤنا وإخواننا في المتوسطة والثانوي، لكن المتعمقون منهم يصلون إلى نظريات مذهلة جداً، فتضطر أعصابهم وشعورهم وعواطفهم ومشاعرهم أن تقول: الله، أو الخالق، لا يمكن إلا أن يكون هناك خالق وراء هذا الكون البديع، حتى وجدوا من جملة العجائب التي وجدوها أن وجدوا مجرات في أطراف الكون ولم يعرفوا آخره، ولن يعرفوه يكون على شكل: رأس الحصان، يسمونها: مجرة رأس الحصان، وبعضها على شكل كذا وبعضها على شكل كذا يعني: شيء عجيب جداً، وجدوا الدقة الحكمة الإبداع الإتقان وفي نفس الوقت الجمال، ليس مجرد إتقان في الصنعة، لكن مع هذا الإتقان جمال عجيب، جمال في الشمس، وجمال في الأرض، وجمال في القمر، وجمال في البحار، وجمال في الصخور، بحيث أن بعض الحجارة أو بعض الصخور يشاهد فيها أشكال عجيبة جداً في منظرها وجمالها.
وبعض الجمال لا تراه العين المجردة كما قلنا: حبيبات الثلج ما فيها جمال، لكن عندما يريدون أن يدققوا ويضعونها تحت المجهر يرون من الجمال أعاجيب وأعاجيب، هذا كله دليل على أن لهذا الكون خالقاً.
إذاً: من أعظم أنواع الجاحدين والكافرين والمعاندين الذين ينكرون أو يعطلون الخلق عن الخالق، هذا النوع الأول من أنواع التعطيل.