للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مسألة هجر المبتدع]

يقول: ' وإن كان في هجره لمظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره' فهجر المبتدع ليس على الإطلاق -فمثلاً-: إذا كان أهل السنة في مدينة من المدن، لا تزيد نسبتهم في هذه المدينة على واحد في الألف أو (١%) وواحد منهم اجتهد فأخطأ فهجرته لأنه مبتدع، أو نهجر هؤلاء الناس لأنهم مبتدعة، فمعنى ذلك أنك هجرت نفسك لأنه لا يوجد إلا أنت، وفلان وفلان وأنتم غرباء، فموضوع الهجر مرتبط -أيضاً- بالمصلحة والمفسدة.

ومن هنا لا إشكال ولا تعارض بين فعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبين ما فعله الصحابة أو التابعون في هذا الأمر، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هجر الثلاثة الذين تخلفوا في غزوة تبوك، والجيش قوامه -على بعض الروايات- أربعون ألفاً، ولم يحدث قتال، والإسلام قد ظهر، ولا يضر الجيش أبداً أنه نقص منه ثلاثة أنفار، وبعضهم كبير طاعن في السن، فلو حضر لربما لم ينفع بشيء، ولكن هجرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يهجر من تخلفوا عن بدر، ولا من تخلفوا عن الأحزاب، وهنا الحكمة تظهر، فكان الهجر وقت القوة ووقت الظهور ووقت الغلبة؛ لأن الحكمة أنك لا تكون شاذاً إذا أجمعت الأمة؛ والدين قد ظهر، فحتى المنافقون خرجوا مع الجيش، فتتخلف أنت على فضلك.

فهجره في مثل هذه الحالة يشعره بالشذوذ، حتى أقرب أقربائه لم يرد عليه السلام، فكان الألم شديد.

والتزمت الأمة الهجر، لكن أمة لا تلتزم بالهجر، وأمة أهل الحق فيها قلة قليلة، وليس الحق فيها واضحاً ظاهراً، بحيث أن من خالفه يعد شاذاً، بل الأصل هو الشاذ إلى آخر هذه الاعتبارات، فمن يريد أن يطبق فيها حكم الهجر فقد أخطأ، وهذا الذي كان في أول الإسلام.

وكذلك كان حال أئمة السنة، فأول ما ظهر أهل البدع كانوا يهجرونهم هجراً مطلقاً، أيوب وميمون بن مهران والحسن البصري رحمه الله.

فيقول أحدهم عن مبتدع: أقسمت بالله أن لا يضمني وهو إلا سقف المسجد، والآخر يقول نفس الكلمة، فكان هجراً كاملاً، وهذا في القرن الأول أو القرن الثاني حين كانت السنة قوية وظاهرة.

لكن الذي حصل في القرون المتأخرة لما أصبح الخلفاء معتزلة، والقضاة، والوزراء معتزلة، وتحولت الأمة إلى معتزلة، أو روافض، فـ أهل السنة في هذه الحالة اضطروا أن يخالطوهم، واضطروا أن يغيروا المعاملة؛ لأن الحكمة هنا غير الحكمة هناك، وإلا فـ أهل السنة هم كما كانوا، والمنهج واحد، لكن المصلحة تغيرت.

يقول: 'وإن كان في هجره لإظهاره البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره، كما هجر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثلاثة الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم، وأما إذا ولي غيره بغير إذنه، وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية، كان تفويت هذه الجمعة والجماعة جهلاً وضلالاً، وكان قد رد بدعةً ببدعة' فالذي يفعل هذا الفعل رد بدعة ذلك المبتدع ببدعة أخرى وهي ترك الجمعة والجماعة.

لكن إذا كان في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية، كما لو كان المأموم ممن له شأن أو يقتدى به، ولو صلّى خلفه لقيل: فلان صلّى خلفه، فيضلل أهل السنة ويقتدون به، فلا يصلي خلفه، وإن كان معيناً من قبل غيره ممن له الولاية؛ لأنه يقتدى به، والمصلحة هنا في أنه لا يصلي، أما من لا مصلحة من هجره كالعامي أو ما أشبه ذلك فهذا حاله يختلف.