[السيادة في الدستور الجزائري والتونسي والسوداني والبحريني]
أما دستور جمهورية الجزائر الصادر عام (١٩٧٦م) فيقول: إن رئيس الجمهورية يصدر القوانين كما في المادة (١٥٤)، وله حق طلب مداولة ثانية، أي: إعادة القراءة في القانون، ويتعين حينئذٍ الموافقة على القانون بأغلبية الثلثين، فـ الجزائر تعطي حق التحليل والتحريم لرئيس الجمهورية حسب الدستور، وهذا الذي دفع الإسلاميين والدعاة إلى أن يطالبوا بتحكيم الشرع.
وبهذه المناسبة -لأن الكلام الآن عن الجزائر - كنا نود أن تتاح فرصة، لنعطي الإخوة فكرة أوسع عن هذا البلد أولاً: لأن همَّ المسلمين واحد، وهم كما قال صلى الله عليه وسلم: {كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى}، وبعض الناس يقول: هذه مناطق بعيدة، وليس بشرط أن نعرف أحوالها، نقول: قد لا يكون شرط باعتباري أنا كفرد، ولكن باعتبار ذلك كأمة لا بد أن نعرف أحوالها.
ثانياً: إن وسائل الإعلام الشرقية والغربية لم تتركنا جهلة.
أي: أنه لا يتكلم حولها مطلقاً في الإذاعة والتلفزيون، ولا يهمل نهائياً.
نقول هذا؛ لأن البعض يفهم الإخوة خطأً ولا يدري ما حقوقها، فلا بد من معرفة أحوال المسلمين وواقع الأمة، وإعطاء الحلول لها والنظر إلى مشاكلها، ويومياً يصب الإعلام على الناس صباً، والناس يقرءون الجرائد ويسمعون الأخبار عن أحداث الجزائر، وما تقوله وسائل الإعلام الغربي وحتى الإعلام العربي التابع للغرب، يسمعونه منها: الجزائر: المتطرفين الأصوليين إلى آخره.
إذاً: أمام هذا الزخم الإعلامي الهائل، فلا نستطيع أن نسمعهم -نحن- كلمة الحق! هذا تقصير منا، وقد نأثم بذلك لأن في ذلك تلبيس للأمة وغش لها، وقبل فترة تقول جريدة عكاظ جبهة الإنقاذ تريد جر الأمة إلى الدماء، ما شاء الله! كم من الناس عندنا هنا بالآلف، بل مئات الألوف يكرهون هذه الجبهة لأنها -على حسب فهمهم- تؤدي إلى دمار الأمة، فيكرهون المطالبة بحكم الله، لأنهم قرءوا هذه الجريدة، ويقولون: هذه جريدة سعودية في بلد مسلم -والحمد لله- ولا يخطر على باله غير ذلك، وخاصة إذا لم يعترض عليها أحد، لا من العلماء ولا من الدعاة، -إذاً- هذا كلام صادق.
أيها الإخوة: القضية ليس فيها تكافؤ، فلا مقارنة بين ما يتكلم به أعداء الإسلام في وسائل الإعلام وبين ما يتكلم به الدعاة عن هذه القضايا، بل الإعلام يجد له صدى عندنا هنا في الداخل؛ وبهذا يضللوا الأمة عامة عن أحوال المسلمين، ولو أن واحداً يقوم في مكان ما في مسجد ما، ويقول أمام مائة أو مائتين أو ألف -مثلاً- فيذكر لهم الحقائق الصحيحة التي حلت بالأمة، ويحذر من المفاهيم المغلوطة -وهذا الكلام بين أفراد معدودين وليس بين الملايين- يراد له ألا يتكلم عن هؤلاء، وهذه مصيبة وجناية.
أقول: من هذا الباب كنت أريد أن نخصص محاضرة عن الجزائر نعرف ما هي أصل القضية، وأنا أتوقع أنه لا يوجد أحد في الشرق أو في الغرب اطلع على تاريخ الجزائر أو سمع الأخبار عنها، إلا ويشعر أن الأمر فيه شيء غريب، وأظنكم كلكم تشعرون بهذا الإحساس، وهذا الإحساس والشيء الغريب هو: أن البلد بلد مفرنج، أو مفرنس بالأصح، مائة وعشرين سنة من الاستعمار الخبيث؛ حيث دمروا وأزالوا فيها كل ما يَمُتْ للإسلام بصلة، حتى اللغة غيروها، وبعد فترة وإذا بالعاصمة وحدها يأتي منها مليون شخص، يقولون: نريد الإسلام، رجالاً ونساءً، شباب ملتحين ومظهرهم إسلامي، ونساء محجبات، يريدون الإسلام، ما السر؟ لماذا لا يظهر في تونس، أو المغرب مثل هذا الشيء؟ ما هو السر؟ أيها الإخوة: إن الجزائر يشبه هذه البلاد بالدعوة، لأن أصل البلد فيه دعوة سلفية، قضي عليها لكنها لم تَمُت في قلوب الناس، والمتأمل إلى دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه يجد أنها متميزة في جزيرة العرب، ولا شك أنها متميزة في التاريخ كله، لكن على غرارها وعلى منهاجها مع اختلافات -لكن المنهج والهدف واحد وهو الرجوع إلى الكتاب والسنة- فقامت هذه الدعوة على يد الشيخ عبد الحميد بن باديس في الجزائر، وانتهج الشيخ عبد الحميد بن باديس منهجاً علمياً، وهذا الذي نقوله دائماً: العلم العلم! فلا يأتي من يقول: نترك الجهاد، ونترك الدعوة من أجل العلم، لا، بل العلم أساس الدعوة، والعلم أساس الجهاد، ولكن أي علم؟ العلم الذي على عقيدة السلف الصالح.
يقول الشيخ عبد الحميد: لا يمكن أن نبدأ بجهاد الفرنسيين وإخراجهم من البلاد لسببين: أحدهما: لتمكنهم ولسيطرتهم، وهناك سبب آخر هو الأهم وإن كانت تلك من الأسباب المهمة، لكن لأننا لما تركنا العقيدة الصحيحة، وأصبح الناس يتبعون طرق الصوفية والخرافات والشركيات والبدع، وجهلوا الكتاب والسنة، ولأن الأمة ليست لها علماء يوقظونها، ويحركون ضميرها، ويجاهدون بها، فإننا لو أردنا الجهاد، لقادنا فلان وفلان من المجرمين، ومن العلمانيين.
إذاً: ما الفائدة؟! قال: أولاً: نؤسس العقيدة في قلوب الناس، ونؤسس العلم الشرعي الصحيح، ثم بعد ذلك يكون -إن شاء الله- الخير، فالشيخ عبد الحميد بقي أكثر من اثنين وعشرين سنة يفسر القرآن، ويدرس العقيدة في أحد المساجد، ويحضر عنده عدد معين من الطلاب، قد يصلوا إلى مائة وخمسين أو مائتين طالب -تقريباً- وكان يتجول أحياناً ويسافر، ويذهب إلى بعض المناطق، فإذا التمس من شاب في الأقاليم المختلفة أنه طالب علم، وفيه نباهة ونبوغ، وفيه خير، أتى به عنده ويصرف عليه من الأوقاف، ويجلس في الحلقة ويتعلم عشرين سنة، فأصبح عنده عدد كبير من العلماء من أقاليم مختلفة، ثم بثهم الشيخ في الأقاليم، يدعون الناس ويعلمونهم السنة، ويحاربون البدع، منهم الشيخ العقبي ومنهم الشيخ الميلي الذي ألف كتاب الشرك ومظاهره، وغيرهما، وبعضهم لهم كتب موجودة، إما زملاء للشيخ أو تلاميذ له، المهم: اتفقوا على هذا الشيء الواحد، وبعد العشرين نظروا وإذا الحمد لله الدعوة والعقيدة قد انتشرتا كل مكان، والفرنسيون: قابضون على البلاد قبضة شديدة، فقال الشيخ وزملاؤه: لا بد أن يكون هناك رابطة علمية، لا سياسية، ولا حزبية، حتى لا يقال: هؤلاء يريدون السلطة -مثلما تتهم مؤسسات الشرق الأوسط بجميع مجلاتها أصحاب الدعوات أنهم يريدون السلطة- ونسميها رابطة علماء السلف، فاجتمع العلماء والمشايخ من كل إقليم من أقاليم الجزائر وكونوا رابطة موحدة على منهج واحد وهو الكتاب والسنة.
وهذه -والحمد لله- ميزة، إذا وجد في أي بلد وحدة المنهج، فهذه نعمة عظيمة، كما نحن في هذا البلد، منهج الاستدلال واحد -والحمد لله- وهذا يوفر كثيراً جداً على الدعوة؛ لأنك لا تضطر لأن تقول للشيء: إنه بدعة، والعلماء يقولون: إنه سنة أو العكس، فمنهج الاستدلال على الأقل واحد، وهذه نعمة، أن يكون المنهج هو منهج السلف، كذلك كان الحال في الجزائر، المهم أنهم لما اجتمعوا إذا بهم كلهم منهجهم في الاستدلال واحد، وقالوا: نريد أن ننشئ مجلة ونبدأ نبث وننشر دعوتنا على الأمة، ونطالب الأمة بأشياء، ونطالب الفرنسيين بأشياء، فتحركت الأمة كلها -طبعاً- وهل يعقل أمة يجتمع علماؤها ويصدرون مجلة، ولهم صوت مسموع، ولا تلتف حولهم الأمة؟! لا يمكن، وهذه من نعم الله، والأمة هذه فيها خير كثير جداً.
لو اجتمع العلماء والدعاة في أي بلد على أمر واتفقوا عليه، واستمروا فيه، فإن الأمة تجتمع حولهم؛ لأن العلماء هم ضميرها المعبر، وهم الذين تثق فيهم؛ لأنهم يقولون: قال الله، قال رسوله، وتعرف أنهم لا يريدون الدنيا، ولكن لو أن أحد العلماء طالب بمنصب أو غيرها من أمور الدنيا لا تهموهم الناس، لكنهم لا يريدون إلا ما عند الله، فالناس لثقتهم في صدق نياتهم وسلامتهم، وأنهم يقولون كلمة الحق التي تغضب أكثر الناس عليهم التفوا حولهم.
إذاً: الأمة الجزائرية، التفت حول رابطة علماء السلف، ولما التفت حولها، بدءوا بالجهاد، وهنا كانت سنة من سنن الله أن الغرب أذكى وأقوى وأكثر بما لا نسبة بينهما، فاستطاعوا أن يقطفوا الثمرة، ويأتوا بالاشتراكيين والخبثاء، ومن قبلهم الوطنيين -كما يسمون- وقطفوا الثمرة وحكموا البلد، ومسخت مسخاً كاملاً؛ حتى صارت اشتراكية، ثورية، ديمقراطية، شعبية، والاختلاط الذي كان الفرنسيون يخافون من تعميمه، عمموه هم، فقد كانت المرأة الجزائرية حتى في المدارس الفرنسية تلبس لباساً أشبه ما يكون بالحجاب، أو قريباً من الحشمة، ولما جاءت الثورة -مع الأسف- استوردوا لهم مدرسين ومدرسات من بعض الدول العربية المعروفة بالتبرج، فنشروا التبرج، مع أنهم لم يأخذوا من الفرنسيين التبرج، لكن لما جاء هؤلاء المسلمون أخذوا منهم التبرج، وهكذا حتى حكمت البلاد بـ العلمانية، وبـ الاشتراكية.
ولما أراد الله سبحانه وتعالى لهم الخير، وجاءت الصحوة الجديدة عادت من جديد، والمجتمع فيه بقايا الخير، وفيه آثار الدعوة السابقة، الشيخ سحنون ما زال حياً -إلى الآن- وهو فوق الثمانين، فشكلوا رابطة علماء السلف، فاجتمعت الأمة حول هذا الشيخ وغيره من المشايخ، وقامت الدعوة مرة أخرى، ويريدون -أيضاً- أن تكون هناك دعوة سلفية، ويريدون أن يكون الحكم لله وحده، وبدون أي مقدمات، وبدون أي تكلف، وبدون أي نشاط حزبي قديم؛ وإذا بالملايين الجزائرية معهم لأن الأصل أن الخير موجود، والسلطة التي كانت تفرض عليهم الكفر ضعفت أو اختفت، أو أعطتهم حرية أنهم يقولون: ما يشاءون، فوجد هذا الزخم الهائل، واجتمعت أوروبا عدة مرات، كان آخرها