[ضوابط الإنكار في مسائل الخلاف]
السؤال
هناك من يقول: لا إنكار في مسائل الخلاف، فهل هذه القاعدة صحيحة، وتؤخذ على إطلاقها؟ ولماذا يتكئ عليها دعاة العصرنة اليوم؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فإن القول بأنه لا إنكار في مسائل الخلاف، هو قول قديم مأثور، تداوله بعض العلماء من قبل، ولكنه يستخدم الآن لأغراض خبيثة أوسع وأبعد مما كان من قبل، كغيره من المصطلحات، ومن القواعد التي توسع فيها في هذا الزمن لغرض إفساد هذا الدين.
ولا شك أن هذا المصطلح أو هذه القاعدة ليست على إطلاقها، فإنه ليس كل خلاف يعتبر كما ذكر ذلك العلماء الثقات من علماء أهل السنة والجماعة.
فالخلاف قد يكون غير جائز، كمن يخالف نصاً من كتاب الله أو سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو إجماع السلف الصالح، فإذا كان الخلاف بين رأي أو اجتهاد أو شيء من ذلك، فإن هذا الخلاف لا يعتبر، ولذلك قال بعض العلماء:
وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلاف له حظ من النظر
فما لم يكن له حظ من النظر في الأدلة الصحيحة، كأن يكون الخلاف في مفهوم حديث أو آية، فهذا معتبر، وما لم يكن كذلك فإنه لا يعتبر.
وإذا كان الخلاف بين نص عام ونص خاص، فلا شك أن الخاص يخصص العام ويقدم عليه.
فعلى هذا -أيضاً- لا ينظر لمن خالف متمسكاً بأدلة العموم في مقابل من تمسك بدليل خاص، أو من تمسك بدليل مطلق في مقابل من يتمسك بالدليل المقيد له.
وهذه كلها قواعد مضبوطة عند العلماء في علم الأصول وفي غيره.
وكذلك إذا كان المخالف يعتمد على دليل غير ثابت، كمن يستدل بحديث ضعيف أو موضوع أو قياس فاسد، فكل ذلك لا يعتبر، وإن كان هو في الحقيقة خلافاً.
وهذا لا يعني أن المخالف نفسه لا يكون مأجوراً، بل قد يكون المخالف مأجوراً؛ لأنه بذل وسعه وطاقته وجهده في الوصول إلى الحق، ولكن هذا هو غاية ما وصل إليه بحثه ونظره واجتهاده، لكن لا يجوز لمن علم أنه لا دليل له إلا هذا أن يخالف الدليل الصحيح الثابت، أو إذا كان الخلاف في الدلالة، فلا يجوزله أن يخالف الدليل القطعي الدلالة، لوجود خلاف سابق، ويقول: إن المسألة خلافية، فالرجوع عند الخلاف إنما يكون إلى كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأما هؤلاء العصريون وأمثالهم، فهؤلاء ينطبق عليهم أكثر ما ينطبق المقولة السابقة، وهي: أنه من تتبع رخص العلماء تزندق، فهؤلاء يأتون إلى كل مسألة من مسائل العلم، ويقولون هذه خلافية، وهذا فيه خلاف.
وتتشعب هذه الأمور حتى لا تنتهي الأمة إلى شيء.
وهذا يذكرني بما يأتي في ديباجة بعض القوانين الوضعية أو الدساتير، فبعد أن يذكروا نصوص القانون فيما يسمونه المصادر الاحتياطية للتقنين، يقولون: يرجع إلى الشريعة الإسلامية على اختلاف بينهم، فبعضهم يجعلها الثالث أو الثاني من المصادر الاحتياطية، فيقولون: يرجع إلى الشريعة الإسلامية دون التقيد بمذهب معين، بل بما يتفق مع روح هذا القانون، دون التقيد بمذهب معين، حتى ولو كان زيدياً، أو رافضياً، أو ظاهرياً، ولو كان قولاً ضعيفاً أو أثر من قبل.
وهذه تفتح باباً عظيماً من أبواب الضلال على الأمة، وتشتت وحدتها العملية، كما أنها شتتت وحدتها الفكرية والنظرية.