للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صبر الدعاة هو من عزم الأمور]

كما ابتلي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهل أحد أكرم أو أمنَّ على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأحظى عند الله من محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقد حوصر في الشعب هو وبنو هاشم، إلى درجة أنهم أكلوا أوراق الشجر من الجوع، وكان ذلك لما كتبت الصحيفة التي تعاقدت قريش فيها على الكفر -والعياذ بالله- وعلى القطيعة؛ فكان لابد من الابتلاء.

وماذا كان يوم أحد؟ وكم كان يوم الأحزاب من الفتن والأهوال التي زلزلت قلوب المؤمنين؟ ولكن في النهاية كان النصر المبين والحمد لله.

فالصبر هو أساس النصر حتى عند من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وقد سُئل الفارس الجاهلي المشهور عنترة بن شداد، فقيل له: كيف تغلب الخصوم إذا بارزتهم؟ قال: كلما قالت نفسي: فر واهرب سيقتلك، قلت لها: اصبري قليلاً لعله يفر قبلي، وما أزال بها حتى يفر؛ سبحان الله! هكذا الإنسان كلما آتاه الله ابتلاء فليصبر قليلاً لعل الله أن يكفيه شره، ولعله هو الذي يذهب؛ وبهذه الطريقة يحصل النصر والله تعالى يقول: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:١٨٦] أي: أن الصبر والتقوى من عزم الأمور، وأهل العزائم معدودون، لكن هؤلاء الأفراد المعدودون هم الذي يعيدون المسيرة كلها؛ لأن هذا الفرد يضع العلامة على الطريق، وهو مثل الذي يتقدم تحت وابل من الرصاص من الأعداء لكي يضع علامة على الطريق ويموت، ثم يأتي الآخر ويضع علامة حتى يمشي عليها الناس، فهذا هو الابتلاء الذي يلاقيه الدعاة والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؛ لأنهم يرسمون طريق العودة لهذه الأمة كلها، فإذا تحول الناس إلى الخير، برز النفاق، فالذي كان وقت الشدة لا يعرفك ولا تعرفه، بل وتخلى عنك، إذا أظهرك الله ومكنّ لك جاءك يقول: أتذكر يوم ساعدتك؟ أتذكر كيف أعنتك يوم احتجتني؟ وهكذا حتى في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان النفاق على هذه الصورة، وهو كذلك في كل زمن.

والمؤمنون يصبرون في أول الأمر حين يمتحنون ويؤذون, وقد لا يرون شيئاً من النصر؛ فهذا مصعب بن عمير رضي الله عنه، الفتى الذي كان مترفاً في مكة ذهب إلى المدينة ودعا الأنصار إلى الله, فأسلموا حتى ما بقى بيت في المدينة إلا ودخله الإسلام وقُرئَ فيه القرآن، يُقتل يوم أحد رضي الله عنه، فيأتي الصحابة الكرام وليس له إلا رداءً إن غُطي به رأسه بدت رجلاه, وإن غطيت به رجلاه بدا رأسه، ومات ولم ير شيئاً من النصر؛ لكن الذين عاشوا من بعده كـ عتبة بن غزوان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، وأمثالهم، فهؤلاء رأوا كيف أظهرهم الله على كسرى وقيصر وفتحوا العالم؛ لكن من مات في بداية الطريق لم يرَ شيئاً من ذلك ولا أدركه؛ هؤلاء غبطوا ذلك المتقدم، وقالوا: "نخشى أن تكون حسناتنا عجلت إلينا" فخافوا من أن ما أدركوه من الخير ومن النعمة، أن تكون حسناتهم عُجلت إليهم، أما مصعب وعبد الله بن رواحة وأمثالهم رضي الله عنهم فإنهم ماتوا قبل أن تفتح هذه البلاد، وقبل أن تكون تلك النعم.

وتشتد الحاجة إلى الصبر كلما كانت الأمة في انحراف، وتحتاج لمن يؤسس لها الخير، ولا أرى أن الأمر قد يحتاج إلى أن أُذكَّر بواقع هذه الأمة الآن، فإنه شيء معرف.