[قصة أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان]
وذكر توبة قريبة من هذه، وهي توبة أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان، وهذه لها قصة مشهورة في كتب الأدب، وإن كانوا يذكرونها في كتب الأدب على أنها طرفة، أو ملحة من الملح أو النوادر؛ لكنها عند أهل الإيمان واليقين تدل على ما ذكره الشيخ -رحمه الله- راوياً بالسند.
قال: دخلت عزة صاحبة كثير عزة -نسبة إلى المرأة التي عشقها، وكان هذا الرجل باطنياً خبيثاً كان على عقيدة الباطنية، وهو ممن كانوا يعتقدون أن الإمام في جبل رضوى، وأنه في أعلى الجبل، وأن عنده نمور تحرسه، وأن عنده عسل وعنده ماء، وسيخرج في آخر الزمان، وكان هذا في القرن الأول.
الشاهد أن عزة دخلت على أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان أخت عمر بن عبد العزيز وكانت تسمع من الشعراء، كأي امرأة مترفة ذات ملك وجاه ومال، فلما دخلت عزة سألتها أم البنين -لأنها تعرف خبرها مع كثير، كما يتناقل الناس الحكايات- فقالت لها أم البنين: ما معنى قول كثير:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه وعزة ممطول معنَّى غريمها
-وهذا السؤال من فضول الكلام، وذلك كما دخل بعض الناس على أحد السلف فقال: إني أرى خشبة في سقف البيت تريد أن تسقط، فقال له: يا رجل! إن لي عشرين سنة في هذا البيت ما نظرت إلى السقف، وكانوا يكرهون فضول النظر، كما يكرهون فضول الكلام- فقالت لها: ما هذا الدين الذي يذكره، قالت: اعفيني.
فقالت أم البنين: لا أعفيك حتى تخبريني؟ فقالت: كنت وعدته قبلة فأتاني يطلبها، فتحرجت عليه ولم أفِ له'.
وعشاق العرب عندهم العشق على نوعين: نوع إباحي، ونوع عذري، أو الهوى العذري -بزعمهم- وهو فقط الحديث والمزح والكلام دون أي شيء آخر وهكذا كان كثير وعزة، وطائفة من العشاق.
والنوع الآخر هو: الإباحي، وهو الذي يؤدي -والعياذ بالله- إلى ارتكاب الفاحشة، وهؤلاء كانوا من الموصوفين بالفجور، فهذه المرأة لم تعطه ما وعدته لحيائها، أو لعروبتها، أو لقبيلتها رغم أنه يخلو بها ويواعدها، ويتحدثان ويخبرها بما قال فيها من شعر، ثم يرجع كل منهما إلى مكانه، وقد قال بعضهم: 'كان العشق فيما مضى أن الرجل يلاقي المرأة فيحدثها وتحدثه، ويناشدها وتناشده، أما اليوم فلا يكاد يخلو بها حتى يفعل بها الفاحشة، وكأنه أشهد على نكاحها أبا هريرة رضي الله عنه' وهذا الكلام قالوه في القرن الأول.
أقول: حتى المجرمين في ذلك الزمن كانوا أخف جرماً من مجرمي زماننا، فالمهم أن الشيطان جاء أم البنين، فقالت: 'أنجزيها منه وعلي إثمها' فأوبقها الشيطان، ثم راجعت نفسها من وقتها واستغفرت الله، وأعتقت لكلمتها هذه أربعين رقبة، وكانت إذا تذكرت هذه الكلمة بكت حتى تبل خمارها، وتقول: 'يا ليتني خرس لساني عندما تكلمت بها' وتحولت أم البنين من تلك التي تستقبل الشعراء، وتسمع أخبار العشاق، إلى امرأة عابدة مجتهدة صالحة فاضلة، قال: فرفضت فراش المملكة، وقامت تحيي ليلها، وكانت كل جمعة تحمل على فرس في سبيل الله، أي: تجهز فرساً يخرج في سبيل الله عز وجل.
وكانت تبعث إلى نسوة عابدات يجتمعن عندها، ويتحدثن معها فتقول أم البنين: 'أحب حديثكن! فإذا قمت إلى صلاتي لهوت عنكن'.
سبحان الله! كيف رسخ الإيمان في قلبها إلى هذا الحد، وكانت تقول: 'البخيل كل البخيل من بخل على نفسه بالجنة'.
وكانت تقول: 'جعل لكل إنسان نهمة في شيء، وجعلت نهمتي في البذل والإعطاء، والله للعطية والصلة والمواصلة في الله؛ أحب إلي من الطعام الطيب على الجوع، والشراب البارد على الظمأ'.
سبحان الله!! جعل الله نهمتها في العطاء والبذل والإحسان، وهذا خير عظيم فتح عليها، قالت: 'وهل ينال الخير إلا بالاصطناع'، وكانت على مذهب جميل حتى توفيت رحمها الله.
فالشاهد أنها وقعت في ذنب، ولكن أعقب ذلك هذه التوبة، وهذه الاستقامة، وهذا الخير، وربما لم تكن لتنال ذلك الخير ولا تحصل عليه لو لم تقع في تلك الكلمة.