[اللفظ بين الشرع والعرف]
والحديث الثاني الذي رواه الإمام مسلم وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: {أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس من لا درهم له ولا متاع, فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، فيأتي وقد شتم هذا, وقذف هذا, وأكل مال هذا, وسفك دم هذا, وضرب هذا؛ فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته؛ فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطايا من ظلمهم فطرحت عليه ثم طرح في النار} وإن هذا الحديث يفيدنا كما تفيدنا أحاديث أخر تصحيحاً للمفاهيم والمقاييس؛ من خلال تحرير وتصحيح المصطلحات, فالناس في نظرهم مصطلحات تطلق مثل: فلان حر, أو فلان عدل, وفلان فيه خير, وفلان عاقل وغير ذلك, ولكن قد تكون بخلاف المراد والمطلوب شرعاً، فاللفظ يطلق في الشرع لمعنى آخر يدل على صفة حقيقية إما من عمل الطاعات أو غيره.
أيضاً: في الجانب الآخر قد يكون للظالم أو الباطش أو ما أشبه ذلك صفة في الشرع غير ما في نظر الناس, فمثل هذه الأحاديث تفيدنا في كيفية وزن الأمور وكيف نعرفها, وكيف نستخدم الألفاظ؟ فهذا من حكمة الدعوة.
فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أتدرون من المفلس؟} وهذا سؤال أكثر الناس يعرفون الجواب عليه من خلال حياتنا العادية.
{قالوا: من لا درهم له ولا متاع} وهذا معروف عند الناس؛ لكن ليس هذا هو الجواب, وكأنهم يقولون: هذا في واقعنا, وفيما نقيس نحن, وإذا كان: لديك يا رسول الله شيء آخر فعرفه لنا.
وهذا كمثل الشديد عند الناس هو القوي الذي يصارع القوم فيغلبهم, والغني هو صاحب الأموال الذي يكنزها, فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصحح هذه المفاهيم الدنيوية إلى مفاهيم شرعية فيقول: {ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} ويقول: {الغنى غنى النفس} فالمفلس ليس هو ما تعارفتم عليه؛ ولذلك قال: {إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة, وصيام, وزكاة} وهذا يدل على أنه يفعل الحسنات, ويقوم بالطاعات؛ فالصلاة, والصيام, والزكاة أعمال وطاعات؛ بل هي أركان الإسلام, والمواظب عليها موعود بالخير , والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شبَّه الصلوات الخمس بنهر جار يمر على باب أحدنا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات.