[مفسدة الخروج عن المألوف]
وهناك -أيضاً- أمور مما يخطأ الشباب فيها، وهي من جانب العاطفة، والشكاوى منها كثيرة.
الشاب في حال ضلاله أو بُعده قبل توبته وقبل هدايته، يرى ما هو عليه -قبل أن يستقيم- أنه مألوف لدى أكثر الناس، وهذا في الغالب، فلما استقام أصبح غريباً، وأصبح متميزاً عنهم، ولا شك أن الحق متميز عن الباطل، وأن الطاعة متميزة عن المعصية، وأن المعروف متميز عن المنكر، لا شك في ذلك، ولا بد أن تستبين السبيل وأن تتضح.
فالنفاق والمداهنة ليست من دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن إلى أي قدر يصل ذلك؟ وإلى أي حد؟ فيأتي الشاب وهو في هذا الشعور الجياش الفياض بالإيمان، فيُرى بعيداً عن كل ما مِنْ شأنه أن يشوب إيمانه أو يُعكِّر عليه هذه الاستقامة، فيعتقد قاعدة ترسخ في ذهنه، وهي أن الخروج عما عليه الناس وعما ألفوه هو الخير، فيظن أن الأصل في ديننا أن تخرج عما عليه الناس، والصحيح أن الأصل أن تخرج من الباطل إلى الحق، لكن هكذا يزين الشيطان.
فيبدأ الإنسان يخرج عن المألوف، ولا نقصد أنه خرج عن مألوف من يسمعون الأغاني، ويرون هذه المسلسلات الفاجرة، ويذهبون إلى الأسواق، ويسافرون، ويفعلون المنكرات، فالخروج من هذا المألوف إلى هذا المجتمع الطيب شيء جميل، لكن لا تقف العاطفة بالشاب عند هذا الحد، بل يدخل في القضايا العلمية، وهنا تكون المشكلة، مع وجود العلماء -والحمد لله- ومع وجود المفتين، ومع وجود المنهج العلمي، وإن لم يوجد في الواقع بالشكل الذي نريد لكنه موجود في الكتب.
مع وجود كل ذلك يأتي الشاب، فيخيل إليه من منطلق الخروج عمَّا ألفه الناس أنه لا بد أن يتصرف في أفعاله غير ما يفعلون، فالناس يسبلون الثياب، وهو قد تمسك بالسنة -والحمد لله- وترك هذا الفعل المحرم، فقصَّر الثوب، وهذا شيء عظيم، فهل يقف عند هذا الحد -مثلاً- لا، بل يريد أن يتميز عنهم في الصلاة، وهذا جميل جداً، فيرى الناس لا يخشعون في صلاتهم، ولا يضعون أيديهم حيثما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع يده، ولا يطمئنون، وغير ذلك مما هو موجود في المجتمع، فيطبق صلاته لتكون على السنة وإن خالفت الناس، وهذا جميل جداً، ثم يستنير بعد ذلك، فيدخله الشيطان، أو هذه العاطفة تأتي به فتوقعه في أمور أخرى، حيث يجتهد بعض الشباب فيها، وهي خارجة عن المألوف، وينسى مردودها في واقع الدعوة.
وبعض الشباب قد قرأ في صفة صلاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً صحيحاً أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زاد في التسليم على السلام عليكم ورحمة الله: (وبركاته)، وهذا طيب -والحمد لله- لأنه قد صح الحديث فيها، فذهب يصلي بالجماعة، فكيف يكون شعوره عندما وجد هذا ووجد أن الناس لا يفعلونه، وأن المساجد كلها لا تقول: وبركاته؟! فيعزم على أنه لابد أن نحيي هذه السنة، فربما قد تأتيه مشاعر، ويقول في نفسه: نحن متى كنا نتبع آراء الناس؟ فلينكر من ينكر، وليغضب من يغضب، المهم أن يفعل هذا الشيء، إذا صح شيء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليذهب الناس إلى ما يريدون، لا يهمنا، المهم ما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم إنه صلَّى بهم الصلاة ثم سلَّم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم ورحمة الله؛ فيبدأ الناس يتهامسون في المسجد، وربما وُجد فيهم -من أصحاب البدع- من يقول: "أنا قلت لكم: هذا الولد -الإمام- يقول: إن المولد بدعة! ".
أو ربما يكون هذا القائل صاحب ربا، يقول: "هذا الإمام يقول: إن التعامل مع البنوك ربا، وهذا كذاب، وانظروا كيف زاد في الدين، هذا هو الدين!! والبنوك موجودة من زمان، والعلماء رأوها، والناس أيضاً رأوها، وما تكلم أحد عنها، وهذا يحرم في آخر الزمان، وكل يوم يأتي بشيء جديد".
وإذا بالناس سبحان الله! ضجوا به، وإذا به يصيح بهم: يا جماعة! هذا الحديث صحيح، وهذا الكتاب، انظروا! فيقولون: نحن نسمع الحرم كل يوم، ونسمع المساجد فلا أحد يقولها، فمن أين أتيتنا بهذا، وأدى بهم ذلك إلى أنهم لم يعد يسمعوه.
فلو تكلم أو قام وقرأ عليهم الآيات في الشرك، وهو أكبر ذنب عُصِيَ الله به، وأكبر قضية في القرآن قضية الشرك وتحقيق التوحيد، لو قام وتكلم فيها بعد ذلك لقالوا: هذا صاحب: وبركاته! فلا يسمعونه أبداً وهكذا، فيجعلون تلك الجزئية حجة لترك ما هو واضح الأدلة، ومعلوم ومشتهر كالشمس في رابعة النهار، فيقولون: اتركوه ولا تسمعوا منه، أمور تأتي والسبب فيها مثل هذه التصرفات وبسبب الخروج عن المألوف.
وأنا قلت: تخرج عن المألوف، ولم أقل العمل بالراجح أو المرجوح، فالمسألة هنا لا أعتبرها مسألةً علمية، قبل أن تبحث الحكم من الناحية العلمية في مثل هذه الأمور، انظر فعلاً إلى أثره، وإلى مردوده، أي: قبل أن تجتهد لتصل إلى خلاصة في هذه المسألة، انظر ما موقعه من دعوتك.
وأوضح أكثر ما أريد أن أقول: عندما أدعو الناس للاستقامة، وإلى السنة، وإلى الخير، فإن أول وأجدر ما يمكن أن أدعو إليه هو توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو أن يؤمنوا بالله، وأن يستقيموا على دين الله، وأن يعرفوا الله، وأن يتجهوا إلى طريق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وينصرفوا عن الشرك أو الضلالات الفكرية والانحرافات العقائدية والبدعية التي تنتشر بين الناس، هذه هي قضيتنا الأساسية، ثم بعد ذلك، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكرات، نجتهد في الدعوة إلى النهي عن المنكرات التي تلي ذلك وهي الفواحش المحرمة، وكل ما هو محرم، وبعد ذلك ندعو الناس إلى ترك المكروهات، ولا نعني بالتدرج هذا أننا نتكلم مع الناس فقط في التوحيد وترك الشرك إلى ما لا نهاية، ثم ننتقل بعد عشرين سنة أو مائة سنة إلى مرحلة أخرى، لا! إنما المدعو الذي عرف التوحيد وعرف الله، وانقاد لدين الله، ننصحه ونبين له المنكرات الأقل، فإذا انقاد أكثر، قلنا له: هذا من السنة، وهذا من الدين، وهذا من الفطرة وهكذا، فلا نبدأ بالعكس.
هكذا الأسلوب الصحيح في التربية، أما ذاك الذي لا يزال في أول الطريق فإننا نظل نخاطبه بما نقوله لمن هو في أول الطريق، لكننا أحياناً نعكس القضية.
فيجب علينا أن نحسب حساب تصرفاتنا وأنها محسوبة على هذه الدعوة، وما جاء رسول إلى قومه إلا واتهموه -صلوات الله وسلامه على رسوله وأنبيائه أجمعين- بأنه خرج عنها، وشذَّ عنها، وخالف ما كان عليه الآباء والأجداد، كما فعلت قريش لما أرسلت عمرو بن العاص إلى النجاشي -مثلاً- وذكر له أن جريمتهم أنهم خرجوا عما نحن عليه.
وهناك صفة اجتماعية معروفة في جميع المجتمعات، وهي أن المجتمع لا يحب من يخرج على وضعٍ قد ألفه، وإن كان هو قبل عشرين سنة لم يكن على هذا الوضع، وبعد عشرين سنة لن يكون على هذا الوضع، لكن هو يقبل التدرج البطيء في التغيير، ويرفض الطفرة والسرعة في التغيير.
فنقول: يجب أن نهتم بمثل هذه الأمور، نعم! نحيي السنن، لكن يجب أن نضع الشيء في موضعه، وأن نسأل أنفسنا متى نحييه ومع من؟ أنا أقوله لكم، إذا كنت في مدرسةٍ لتحفيظ القرآن -مثلاً- أو في مركزٍ من المراكز الطيبة، وفي مكان كلهم طلبة علم، يمكن أن تقول أو تدعو إلى بعض هذه الأمور أو تظهرها، لكن أمام العامة من الناس فإن الحال يختلف، فهناك فرق بين مقام التعليم أو مقام طلبة العلم وبين مقام العامة، وهذا كمسألة القراءات -مثلاً- وقد وقعت، ويسأل عنها البعض، هل نقرأ الآن القرآن بغير قراءة حفص؟ لو أنك في مدرسة تحفيظ القرآن، أو في مجتمع كلهم من الحفظة الذين يعرفون القراءات، فإنه لن يقول لك أحد من العلماء: حرام عليك أن تقرأ بأية قراءة من القراءات، لكن إذا عينت إماماً بين عامة، وذهبت تقرأ بغير القراءة المشهورة، ماذا سيكون مردودها وصداها؟! إنها سوف تسبب مفاسد كبيرة جداً، فبعض الناس لا يعرف القراءات أصلاً، ولم يسمع عن شيء اسمه قراءات، والبعض الآخر يسمع ويغالط نفسه، يقول: ليست قضية قراءات، لكن هؤلاء شباب شذاذ مبتدعون، يريدون أن يخرجوا عما نحن عليه، ويريدون ويريدون، ويكيل لك التهم الكثيرة وهكذا.
والأمثلة لا أحب أن استطرد فيها لكثرتها، ولكن لأنني أعاني منها أو من بعضها، أحببت أن أشير فقط إلى كيف أن العاطفة تغلب، وأن الإنسان يظن أنه بهذا العمل يخرج عمَّا ألفه الناس من الواقع المخالف، ولكنه يقع في مفسدة أكبر وأعظم.