ومن جانب آخر نجد أن أوروبا خاصة عاشت نظاماً أبشع وأسوأ من الأنظمة القبلية الأخرى، وهو النظام المعروف بالنظام الإقطاعي، وهذا النظام فيه من الظلم على الإنسان ما لم يشهده أي نظام آخر في التاريخ، وخاصة عندما كانت أوروبا غارقة في ظلمات القرون الوسطى وقبل أن تظهر فيها حركات التحرر، أو حركات العتق التي يسمونها الليبرالية.
هنالك كان القانون والشرع والنظام يضعه المالك الذي يملك الإقطاعية، والإقطاعية قد تكون قرى ومناطق كبيرة، وقد تكون ما يعادل في هذا الزمان إقليماً، أو إمارة، أو محافظة، فكلها يملكها رجل واحد هو الرجل الإقطاعي، وهذا الرجل هو الذي يشرع كما يشاء ويفعل ما يشاء بكل من هو داخل هذه الإقطاعية، فالكل يحرثون ويحصدون ويجمعون، والسيد يتحكم في ذلك؛ لأنه يملك الأرض ومن عليها، فيتحكم في الثروة ويحوزها كلها إليه، ويتحكم في نسائهم وأموالهم ودمائهم، فله التصرف المطلق في كل شيء.
ولذلك فـ أوروبا لما عانت من هذا النظام الإقطاعي المرارة والألم عممته، وهذا أحد الأخطاء التي يرتكبها المؤرخون في تاريخ التشريع أو التقنين أو تاريخ التطور الاجتماعي أو تاريخ علم الاجتماع إلخ.
فيظنون أن هذا النظام قد عمَّ العالم كله بهذا الشكل، ثم ينظرون إلى العالم الإسلامي اليوم، ويقولون: إنه ما زال يعيش في الإقطاع ويتهمونه بأنه دول إقطاعية.
ولا شك أن الإقطاع وجد بشكل من أشكاله في أيام الدولة العثمانية، لكنه لم يوجد بشكل كامل كما في أوروبا وهو ليس من الإسلام أصلاً، ثم إنه غير موجود الآن، والشاهد على أن النظام الإقطاعي شهد أسوأ وأشد أنواع التسلط والظلم؛ أن التشريع كان يستمد من المالك الإقطاعي الذي يملك الأرض ومن عليها، وهو الذي يشرع لهم كل شيء، وهذا من أفحش وأشد أنواع الظلم، حتى أنه كان لا يحق لأي رجل من الإقطاعية أن يتزوج أو أن يدخل بزوجته إلاَّ بعد أن يراها السيد المالك الإقطاعي، فإن أعجبته فإنه يدخل بها قبل زوجها ويفعل بها الفاحشة، وإن لم تعجبه تركها، فوصلوا إلى حالات من الظلم قد لا يكون لها نظير.
ومن المؤلم والمؤسف أن نذكر أن نظام الإقطاع سخَّر كثيراً من المسلمين وجعلهم عبيداً في الأراضي، فدرجتهم أدنى من درجة المزارعين والفلاحين، وهؤلاء العبيد هم من الأندلس الذين هجِّروا وطُردوا، وهم من المسلمين الذين أسروا في الحروب الصليبية وفي غيرها، فأرغموا على أن يتركوا دينهم، وأن يعيشوا عبيداً للأرض، يخدمون المزارعين الذين هم ملك للسيد أو للمالك الإقطاعي، وهكذا دائماً تجد معاملة كل من لا يعرف الله عز وجل ولا يوحده ولا يخافه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا هو حاله مقترن به الظلم والجهل والجبروت والتسلط، وخاصةً من اليهود والنصارى وأمثالهم على المسلمين، وهذه -في جانب من جوانبها- هي عقوبة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على المسلمين، على ما فعلوا وارتكبوا وفرطوا في دينهم.