للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فقيه من الصحابة يخشى الله]

ومن النماذج الكثيرة في الخوف وممن اشتهر عنه ذلك من الصحابة: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقد كان جالساً مع بعض تلاميذه, فقال رجل منهم: ما أُحِبُّ أن أكون من أصحاب اليمين, وإنما أحب أن أكون من المقربين -وهذه أمنية وليست أمنية ضائعة خاسرة -كما سيمثل الشارح رحمه الله للأماني والأحلام التي لا أساس له من الواقع- إذ أن تلاميذه وجلساءه -رضي الله عنه- كانوا من خيار الأمة حينئذٍ, وهذا تطلع وتشوق من هذا الرجل أن يكون من المقربين, ويرجو ذلك, ولم يقم به مانع يمنعه من أن يكون ممن يتمنى ذلك -وأراد عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أن يعلمهم كيفية الخوف, وأن الإنسان يغلب جانب الخوف والحذر، فقال: [[أما إن ها هنا رجلاً يتمنى أنه إذا مات لم يبعث-أي: نفسه- وقال: وددت لو أني شجرة تعضد]].

من شدة خوفه من حساب الله، ومن لقاء الله، ومن شدة خوفه من أن أعماله -مهما كانت صالحة- قد لا تقبل, وهو من الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، ومن اتهامهم لأنفسهم ولأعمالهم مع ما فيها من خير وصلاح يتمنون أنهم إذا ماتوا لم يبعثوا, فلا لهم ولا عليهم.

وهذا الأثر بقي في مدرسته التي كانت جامعة عظيمة تخَّرج منها خيار الأمة، وكل ذلك من غرس يده -رضي الله تعالى عنه- في الكوفة , ثم بعد ذلك انتشر علمها في أقطار الدنيا.

ومن الملاحظ في سير العلماء التي لو تتبعناها -وجدير بنا أن نتتبعها دائماً- لوجدنا أن من كان من العلماء أو من العباد الصالحين والزهاد في أول أمره مقارفاً للذنوب والمعاصي, ثم اهتدى فيما بعد, نجد جانب الخوف عنده أكثر, وقد تأملت بعض السير فوجدت هذا, وأظن أن السر والسبب في ذلك لا يخفى؛ لأن الذي نشأ من أصله في تقوى الله وفي طاعة الله لا يحس ولا يستشعر خطر الذنوب والمعاصي كالذي واقعها وقارفها ثم عرف خطرها.

ففي كل حين يأتيه وازع الإيمان في قلبه، ويقول له: كيف لو مت وأنت على تلك الذنوب؟! كيف لو كانت خاتمتك وأنت تفعل تلك المعاصي والفواحش والموبقات والكبائر؟! فلذلك نجد أن هؤلاء أشد خوفاً وخشية على أنفسهم من الذنوب والمعاصي من غيرهم ممن لم يكونوا كذلك.