للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تأويل الصحابة للنصوص]

ثم قال: وشبهتهم -شبهة أن الإيمان لا يضر معه ذنب- كانت قد وقعت لبعض الأولين ممن ليسوا من المرجئة، واتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك، فإن قدامة بن مظعون شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة، وتأولوا قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} [المائدة:٩٣].

هذه قصة عظيمة وعجيبة، وفيها كثير من العبر والأحكام العقدية والفقهية؛ حيث إن قدامة بن مظعون وهو رجل من الصحابة ومن السابقين، وقد جاء في سيرته أنه هاجر إلى الحبشة، وشهد بدراً وسائر المشاهد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتوفي سنة (٣٦هـ).

وكانت هذه الشبهة العظمى التي وقعت له في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان له صلة بـ عمر رضي الله عنه فإنه خال حفصة وعبد الله ابني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأخوه هو الصحابي المعروف بـ عثمان بن مظعون الذي دعا له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برفع الدرجة، حيث قال: {أما عثمان فقد أتاه اليقين من ربه}.

فهذا قدامة رجل من السابقين والمهاجرين، ولكنه وقعت له هذه الشبهة، وهذا يدل على أن الشبهة العلمية أو الاعتقادية تعرض -مثلما تعرض الشهوة النفسية والجسدية- لأهل الفضل والخير والسابقة، والمعصوم من عصمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذه القصة أوردها كثير من العلماء منهم: عبد الرزاق في المصنف، وابن أبي شيبة، والحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (١٢/ ٧٠)،.

والقصة مذكورة في كتب الفقه عامة كـ المغني وغيره، والمقصود أن هذه الحادثة حادثة عزيزة، حيث ذكر العلماء أن رواية ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: شرب قوم من أهل الشام الخمر، وعليهم يزيد بن أبي سفيان أخو معاوية بن أبي سفيان، وقد كان والياً لـ عمر رضي الله عنه على الشام، وكان قدامة ومن معه يسكنونها، فقالوا هي لنا حلال، وتأولوا هذه الآية: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة:٩٣].

فكتب يزيد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستشيره في شأنهم، فأشار عليه رضي الله عنه وسائر الصحابة بأنهم يستتابوا، فإن تابوا جلدوا ثمانين جلدة -وهي حد الشرب- وإن لم يتوبوا قتلوا؛ لأنهم استحلوا المحرم القطعي، ولذلك نجد عبارة المصنف: ' اتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك '؛ لأن القصة اشتهرت عندهم، واستدعاهم عمر -رضي الله عنه- واستشار فيهم الصحابة، وعَلِمَها كافةُ الناسِ وأهلُ الشورى وأهلُ الرأي، واتَّفَقَ رأيهم على هذه الفتوى، فأصبحت كأنها إجماع.