للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الملل والمسيح المنتظر]

تتفق الأديان الثلاثة على أن المعركة الكبرى والأخيرة التي ينتصر فيها دينها، ويتحقق لها وعدها، ويدمر فيها عدوها، لن تكون قيادتها من النوع المألوف لدى الناس، بل سيكون حامل لوائها منتظرا موعوداً به، مؤيداً من عند الله، يسمى (المسيح).

يقول ابن القيم - رحمه الله -: 'والأمم الثلاث تنتظر منتظراً يخرج في آخر الزمان؛ فإنهم وعدوا به في كل ملة' ويقول ابن جوريون أول رئيس حكومة يهودية: 'تستمد الصهيونية وجودها وحيويتها من مصدرين: مصدر عميق عاطفي دائم، وهو مستقل عن الزمان والمكان، وهو قديم قدم الشعب اليهودي ذاته، وهذا المصدر هو الوعد الإلهي، والأمل بالعودة، ويرجع الوعد إلى قصة اليهودي الأول {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} [آل عمران:٦٧] الذي أبلغته السماء أن: (سأعطيك ولذريتك من بعدك جميع أراضي بني كنعان ملكاً خالداً لك) هذا الوعد بوراثة الأراضي رأى فيه الشعب اليهودي جزءاً من ميثاق دائم، تعاهدوا مع إلههم على تنفيذه وتحقيقه، والإيمان بظهور المسيح لإعادة المملكة أصبح مصدراً أساسياً في الدين اليهودي يردده الفرد في صلواته اليومية؛ إذ يقول بخشوع وابتهال: أؤمن إيماناً مطلقاً بقدوم المسيح، وسأبقى -حتى لو تأخر- أنتظره كل يوم.

أما المصدر الثاني فقد كان مصدر تجديد وعمل، وهو ثمرة الفكر السياسي العملي الناشئ عن ظروف الزمان والمكان، والمنبعث من التطورات والثورات التي شهدتها شعوب أوروبا في القرن التاسع عشر وما خلفته هذه الأحداث الكبيرة من آثار عميقة في الحياة اليهودية ' وعلى هذا الأساس فإن معركة المستقبل ستكون بين مسيحين، أحدهما المسيح الدجال الذي يؤمن به اليهود ويسمونه ملك السلام والذي يهيئون لخروجه، ولكنهم لا يسمونه الدجال.

والآخر هو المسيح بن مريم عليه السلام الذي يؤمن بنزوله وعودته المسلمون والنصارى.

ويتفق اليهود والنصارى على أن المسيح المنتظر سيكون من بني إسرائيل، وسينزل بين بنى إسرائيل وسيكونون جنده وأعوانه، وستكون قاعدة ملكه هي القدس أورشليم، كما تتفق الطائفتان على أن تاريخ نزوله سيوافق رقماً ألفياً (نسبة إلى الألف) ومستندهم في ذلك بعض التأويلات، لما جاء في رؤيا يوحنا اللاهوتي، ومنامات الرهبان، وتكهنات الكهان، أمثال أنوسترا دامس الذي حولت السينما الأمريكية توقعاته المستقبلية إلى فيلم لاقى رواجاً كبيراً في العقد الماضي، ثم برز الحديث عنها أيام حرب الخليج بين الغرب والعراق.

والآن مع اقتراب نهاية الألف سنة الثانية من ميلاد المسيح - عليه السلام - واعتقاد قرب نزوله كما يؤمن الأصوليون الإنجيليون، يلتقي الحلمان القديمان اللذان يتكون منهما الوعد المفترى: حلم النصارى بعودة المسيح ونزوله إلى الأرض ليقتل اليهود والمسلمين، وكل من لا يدين بدينهم في معركة هرمجدون (الآتي تفصيل الحديث عنها)، وحلم اليهود بخروج الملك من نسل داوود، الذي يقتل النصارى والمسلمين، ويخضع الناس أجمعين لدولة إسرائيل، وهو المسيح الدجال، ومن هاهنا اتفق اليهود والنصارى على فكرة أن قيام دولة إسرائيل وتجمع بنى إسرائيل في فلسطين هو تمهيد لنزول المسيح، كما يفسره كل منهما!! وبنظرة منطقية عابرة، يظهر جلياً أن هذا الإلتقاء الظاهري يحمل تناقضاً كبيراً - يجعل من المفترض عقلياً أن يكون قيام دولة إسرائيل واقتراب نهاية الألف الثانية - مسوغاً لحرب لا هوادة فيها بين الطائفتين (اليهود والنصارى) تبعاً للتناقض الكبير، والحرب المتوقعة بين المسيحين (الدجال وابن مريم) وأن يكون النصارى في هذه المرحلة أكثر تقرباً إلى المسلمين، وتعاوناً معهم تبعاً لاتفاق الطائفتين في الإيمان بمسيح الهدى- عليه السلام - وعداوتهما لمسيح اليهود، ولكن ها هنا مربط الفرس وبيت القصيد.

ها هنا يظهر المكر اليهودي الخبيث، ويتجلى معه الحقد النصراني الدفين على المسلمين، أما المكر اليهودي فيتجلى في تلك الحيلة الغريبة التي ابتدعها حاخامات صهيون، وأقرهم عليها بلا تردد قادة الإنجيليين الألفيين (ولا غرابة فبعضهم يهودي مندس) وهي تأجيل الخوض في التفصيل، والاهتمام بالمبدأ الذي هو نزول المسيح، وذلك بالتعاون سوياً والتخطيط اشتراكاً لتهيئة نزوله، فإذا نزل فسنرى هل يؤمن به اليهود، أو يكون هو الذي يؤمن به - الآن - اليهود؟ فلتظل هذه المسالة معلقة تماماً؛ لأن الخوض فيها ليس من مصلحة الطائفتين معاً!! وليعملا سواء للقضاء على العدو المشترك (المسلمين)!! واتفق زعماء الملتين على نسج قناع يستر وجه المؤامرة عن أعين المغفلين من النصارى، والمستغفلين من المسلمين! وأما الحقد الصليبي فيتجلى في انسياق العالم الغربي النصراني وراء اليهود، حتى في هذه القضية الكبرى التي يقتضي الدين والعقل والمصلحة أن يتفهموا موقف المسلمين منها على الأقل!! -ونخص بالذكر الكاثوليك أتباع البابا الذين لا يؤمنون بحرفية التوراة-، ولكنه الحسد والبغي الذي يكنه أهل الكتاب للمسلمين كما أخبر الله في كتابه المبين.

وإن يكن شيء أعجب من انسياق النصارى وراء اليهود فهو انسياق المسلمين وراء الطائفتين، كما هو حال المشاركين في مدريد، والموافقين على مشروع السلام المزعوم، بل المنساقين وراءهم منذ وعود الحلفاء في الحرب العالمية الأولى.