للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حديث "فحج آدم موسى" والاحتجاج به على المعاصي]

السؤال

حديث: {فحج آدم موسى، فحج آدم موسى} اشرح لنا هذا الحديث؟ وآخر يقول: هل للعصاة حجة فيه للاحتجاج على المعاصي؟

الجواب

هذا الحديث أولاً: هو حديث صحيح لا شك في صحته عند علماء السنة.

يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {احتج آدم وموسى، فقال موسى لآدم: أنت آدم الذي خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة} هكذا في بعض الروايات وكلها متقاربة، وهكذ احتج موسى على أبينا آدم عليهما السلام: {فقال له أبونا آدم عليه السلام: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وخط لك التوارة بيده، تلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى} أي: غلبه بالحجة.

فآدم غلب موسى، وهنا وقع الإشكال؛ فـ القدرية المعتزلة وأشباههم قالوا: هذا الحديث لا يثبت وردوه، وإذا قيل لهم: كيف تردونه وهو صحيح؟! قالوا: هذا فيه حجة لأهل المعاصي، فيعصي الإنسان ويقول: قدَّر الله عليَّ؛ لأن آدم قال: قدر الله عليَّ قبل أن أخلق بأربعين سنة، فنحن نرد هذا الحديث، فردوه وهو حديث صحيح.

وأما القدرية المرجئة -والكل يسمون القدرية لكن الأخص يطلق على النفاة- فقالت: لا.

بل هذا الذي نريده، فاحتجاج العاصي بذلك جائز له؛ لأنه في الحقيقة لا فاعل إلا الله، وكما يقول غلاة الصوفية:

أصبحت منفعلاً لما تختاره مني ففعلي كله طاعات

أي كل أعمالي من الله.

فهذا الحديث يدل عندهم على أن للعاصي أو لأي مذنب أو مجرم أن يحتج بالقدر، وهذا أيضاً باطل.

وقد وقع في هذا الحديث خصومة شديدة بين المعتزلة الذين أنكروا الحديث، والأشعرية والصوفية الذين أثبتوه؛ ولكن على غير الوجه الصحيح، حتى قال الشيخ المقبلي رحمه الله: من يقرأ في مجادلة الفريقين يظن أن آدم أشعري وموسى معتزلي.

فجعلوا آدم أشعرياً، وجعلوا موسى معتزلياً، سبحان الله! من كثرة ما تجادل الطرفان، وكلاهما أخطأ في الفهم.

والفهم الصحيح للحديث هو كما فهمه الصحابة الكرام، فلم يقع عندهم أي تعارض، وهم أفقه الناس وأعلمهم وأذكاهم، وهو أن موسى عليه السلام لم يعتب ويلم آدم على الذنب، ولم يقل لآدم كيف تذنب وتعصي أو كيف تأكل من الشجرة، وهذا هو الفهم الذي تفهمه الجبرية.

وهنا إشكالات يكفي أن نذكر منها إشكالين بالنسبة لكل واحد من هذين الرسولين: أولاً: أما بالنسبة لآدم عليه السلام فالجواب سهل جداً، فإذا قال له: لماذا تعصي؟ فسوف يقول: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد غفر لي ذنبي، ولست أنت ربي حتى تحاسبني؛ ومن هذا الذي يلوم أحداً على ذنب قد فعله، وعنده علم من الله أنه قد غفر له؟ ومثلاً الكافر إذا أسلم؛ نحن نعلم -وإن كان ليس بنفس اليقين- أن هذا الإنسان ما دام أسلم فإن الإسلام يجب ويهدم ما قبله، فعندما أقول له: لماذا كفرت؟ فهو يقول: لا داعي للسؤال فأنا قد أسلمت، واعتراضك هذا ليس له وجه.

فالجواب إذاً سهل بالنسبة لآدم، فيقول: إن الله قد غفر لي ذنبي، ولست أنت بربي، وأيضاً موسى عليه السلام أعلم بالله وبآدم وبالحق من أن يلوم أباه آدم على ذنب يعلم أن الله قد غفر له.

إذاً إلى أي شيء يتوجه اللوم؟ إنما يتوجه موضع اللوم؛ إلى الإخراج فاللوم أنك خيبتنا وأخرجتنا، فموسى عليه السلام ينظر كيف كنا، وأين كنا، كما قال ابن القيم:

فحي على جنات عدنٍ فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم

ولكننا أسرى العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم

فنحن نزلنا إلى هذه الدنيا وهذا التراب حتى يقال: إن آدم عليه السلام بكى طيله ثلاثمائة سنة، ولا بد أن يبكي عليه السلام لما أنزل إلى التراب، فهي مصيبة كبيرة أن يخرج من الجنة وينزل إلى التراب.

فموسى عليه السلام يلومه على هذه المصيبة، فيقول: يا أبانا آدم! خيبتنا وأخرجتنا من الجنة.

إذاً هذا اللوم يتوجه إلى هذه المصيبة، وهي الخروج من دار النعيم، ومن دار القرار إلى دار الشقاء والنكد والمصائب، فآدم عليه السلام يقول: أنا ليس لي ذنب في الإنزال، بل هي مصيبة ليس لي ذنب فيها؛ لأنه أمر قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة، وهذا صريح القرآن: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:٣٠] أي: أن هذا قبل أن يخلقه: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:٣٠].

إذاً فالله قدر قبل أن يخلق آدم في الفترة التي لم يكن فيها آدم شيئاً مذكوراً، كما قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} [الإنسان:١] وهي أربعون سنة.

فيقول آدم عليه السلام: يا موسى! الإنزال في الأرض ليس له علاقة بي، عصيت أو لم أعص فالنزول واقع واقع، لأنه قُدر وكُتب قبل أن أخلق بأربعين سنة بأنني أنزل إلى الأرض فلماذا تلومني؟ أتلومني على أمر قد كتبه الله عليَّ قبل أن أخلق بأربعين سنة؟! إذاً انتهى الجواب: {فحج آدم موسى} وفي رواية أخرى: {ألم تقرأ في التوراة أن الله تعالى كتب أنه سوف ينزلني إلى الأرض وأنه سيجعلني خليفة في الأرض}.

إذاً ليس هناك مجال للاحتجاج بالقدر على المعاصي؛ ولكن نحتج بالقدر على المصائب، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الحديد:٢٢] وهذا ما أمرنا به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن نقول: {قل قدر الله وما شاء فعل}.

فإذا وقعت المصيبة ووقع الشيء خلاف ما تريد؛ فإنك حينئذ تحتج بالقدر وتقول: قدر الله وما شاء فعل، إنا لله وإنا إليه راجعون، لله ما أخذ ولله ما أعطى، فهذه أقدار الله عز وجل؛ فالقدر يحتج به على المصائب، ولا يحتج به على المعائب والذنوب.

أما أخطاؤنا التي نرتكبها عصياناً لله، فلا نحتج بها إلا في حالة واحدة! حالة أن يكون الاحتجاج بالقدر على المعصية مجرد إخبارٍ عن أمر قد مضى أو أمر واقع وليس فيه معارضة على القضاء والقدر.

فالمشركون احتجوا بالقدر على الشرك، فقالوا: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام:١٠٧] {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل:٣٥] {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:٢٠] {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:٤٧] فاحتج المشركون به في مقام الاعتراض على الرسل؛ لكن لو أن أحداً من الصحابة أسلم، فقيل له: لماذا لم تسلم إلا في السنة السابعة من الهجرة؟ فقال: لو شاء الله لأسلمت قبل ذلك، فإننا نقول: الاحتجاج هنا صحيح؛ لأن هذه مصيبة، فيحتج بالقدر على المصيبة، أو يحتج به على ما ظاهره أنه معصية، لكنه بمنزلة المصيبة.

وأما إذا قال لك أحد: هؤلاء جيرانك محتاجون -وهم مسلمون- فأطعمهم، فقلت: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:٤٧] فهذا لا يجوز؛ لأنه يعتبر رداً لأمر الله وشرعه الله بمشيئته، لا يجوز.

ولو قيل لك: يا أخي! يوجد في أمريكا الوسطى أناس فقراء، وفي الصين كل يوم يموت من الجوع ألف؛ فما هو رأيك؟ فقلت: يا أخي! لو شاء الله أطعمهم، وهذه مشيئة الله، فكلامك هنا صحيح، فإنه لو شاء الله ما ماتوا في إفريقيا ولا في أمريكا الوسطى ولا في الصين ففي هذا الموضع لا يكون الاحتجاج دافعاً لعدم الإنفاق ولا منعاً للإحسان؛ وإنما تقول هذا من باب الإخبار المجرد؛ فهو في هذه الحالة يتحول إلى كلام على المصيبة وليس على المعصية.

وقد ورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لما ذهب يتفقد علياً وفاطمة وحضهما على قيام الليل، فقال علي: إن أنفسنا بيد الله فمتى شاء بعثنا، فولى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يضرب على فخذه، ويقول: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:٥٤]} وهذا ليس من باب قول أحدهم: أنا أنام ولا آخذ بالأسباب، وإذا قدر الله لي أن أستيقظ استيقظت! فهذا احتجاج بقدر الله -بأنه هو الذي يحيي ويوقظ النفس- لترك الطاعة، وهذا لا يجوز، لكن علياً فطن إلى المحاجة والمجادلة مثلما فطن آدم في محاجة موسى، أي أنه إذا وقع النوم بعد أخذ الأسباب فهو من الله.

ولهذا فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة بني المصطلق لما نام هو وأصحابه ولم يوقظهم إلا حر الشمس، قال: {إن أرواحنا بيد الله فمتى شاء بعثها} وهذا استدلال بقدر الله على المصيبة، فأنت إذا تحريت واجتهدت ونمت في الوقت المناسب، وقد تكون وضعت المنبه، وكل شيء؛ ثم استيقظت وإذا بالناس قد صلوا الفجر؛ فهنا تقول: أرواحنا بيد الله.

لكن أحدنا ينام ولا يبالي ولا يستعد ولا يريد أن يصلي الفجر جماعة، ثم يقول: أرواحنا بيد الله، فالفرق كبير بينهما، فهذه معصية وتلك مصيبة، وهناك فرق بين المعصية والمصيبة من حيث الاحتجاج.