[إخلاص أهل الكتاب]
وأمَّا أهل الكتاب فإنهم يزعمون أنهم هم أهل الإيمان، وأنهم كما ذكر الله تبارك وتعالى عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:١٨] ويزعمون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى.
إذاً: هم يرون أنهم أصحاب الصراط المستقيم، وأنهم الذين يعبدون الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له، ولو سألت إلى هذه اللحظة أي يهودي أو نصراني: من الذي يعبد الله تعالى حق العبادة خالصة له في هذه الحياة الدنيا؟ لقال اليهودي: إنهم اليهود، وقال النصراني: إنهم النصارى، وهذا باطل.
وقد أبطله الله تبارك وتعالى في مواضع من كتابه، كما في سورة البينة: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:١ - ٤].
وبين ذلك قال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:٥]، هذا دين القيمة وهو الذي قال الله فيه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران:١٩] وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:٨٥].
فهؤلاء أمروا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين، ولكنهم أبوا إلا أن يشركوا بالله تبارك وتعالى بأنواعٍ وألوانٍ من الشرك، منها: دعواهم أن له ولداً -تبارك وتعالى وتقدس عن ذلك- وهذا الزعم قد أبطله الله تعالى في أكثر من موضع كما في الأنعام والكهف ومريم وغيرها من الآيات العظيمة في استنكار ذلك، وكما في قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الاخلاص:١].
وهذه الدعوى واضح بطلانها وإفكهم فيها، ثم إنهم يشركون بالله ولا يجردون الإخلاص لله تبارك وتعالى في ما يتعلق بالتحليل -في التشريع- والتحريم، في توحيد الطاعة والاتباع، وهذا أيضاً ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:٣١].
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمرهم وأن يعبدوا إلهاً واحداً، فعبدوا من دونه آلهةً أخرى، وأشركوا به تبارك وتعالى في التحليل والتحريم الأولياء -كما يزعمون- أو الأحبار أو الرهبان.
والأحبار هم: علماء أهل الكتاب.
والرهبان هم: عبادهم.
والضلال لا يخرج عن هذين، فكل ضلال وقعت فيه الملل فهو بسبب أحد هذين الأمرين، بأن يشرك الناس أحد من اتصف بهاتين الصفتين.
وهذا واقع في هذه الأمة، إما أن يشركوا بالله تبارك وتعالى، أو لا يجردون الإخلاص -وإن كان دون الشرك- لا يجردون هذا المبدأ، وهذا العمل القلبي العظيم لله تبارك وتعالى في طاعة واتباع أهل العلم، الذين يجمعون المسائل العلمية الكثيرة، ولكنهم غير مؤمنين حق الإيمان، فليسوا هم العلماء الذين وصفهم الله تبارك وتعالى بقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:٢٨]، أي: هم الذين يخشون الله ويتقونه، أو كان العلماء كذلك، ولكن أخطأوا فجاء الأتباع فأشركوا بجعلهم آلهة، وألَّهوهم بتقديم ما أخطأوا فيه على ما يعلمون من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهؤلاء هم العلماء.
وأما العبَّاد: فإن كثيراً من الناس يفتنون بالعبَّاد في أي ملة كانت، فيقدمون أعمالهم وآرائهم وما يعبدون أو يتقربون به على ما في كتاب الله، وعلى ما في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا يقدح في إخلاصهم ويجعلهم بذلك مشركين.
ومن هنا فإن الله تبارك وتعالى اشترط ذلك، وذكر أنه طلب من أهل الكتاب الإخلاص لله تبارك وتعالى، وهو الذي جاء في آية آل عمران: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:٦٤].
فهذا -أيضاً- هو تجريد العمل والإخلاص الكامل لله تبارك وتعالى، أما أن تتخذ -مفهوم الآية- أن يعبد بعضكم بعضاً، أو يعبد بعضنا بعضاً الملوك أو الأحبار أو الرهبان أو ما أشبه ذلك، فإننا بذلك لا نكون مؤمنين ولا موحدين، بل نشترط ونطلب ذلك منهم، فهذا بالنسبة لأهل الكتاب.