للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم الصلاة في تلك الأمصار خلف المرء أو عليه]

ثم يقول رحمه الله: 'فالصلاة خلف المستور جائزة باتفاق علماء المسلمين، ومن قال: إن الصلاة محرمة أو باطلة خلف من لا يعرف حاله، فقد خالف إجماع أهل السنة والجماعة ' وهنا ننبه إلى مسألة هامة: وهي أن حكم الصلاة خلفه مثلها -أيضاً- حكم الصلاة عليه، فأي جنازة تقدم في مصر من أمصار المسلمين فالأصل أنه يصلى عليه، إذا كان في مصر غلبت السنة عليه، أو لم يعلم يقيناً أن هذا الرجل من الفرق -أو من الناس- المرتدين، فإن علمت حاله يقيناً أنه مرتد؛ فلا يجوز أن تصلي عليه.

وهذه ينشأ عنها قضية أخرى، وهي: إذا علمت أنه مرتد ولا يجوز لي أن أصلي عليه، فهل يجب عليَّ أن أقول للناس: لا تصلوا عليه؟ الأولى أن نقول: هذه مسألة أخرى، وهذه تتعلق بالمصالح والمفاسد وما يترتب على ذلك؛ لأن الأصل أن الحكم مناط بالمصلحة أو المفسدة، كما فصل -رحمه الله- في هذه الرسالة، وهناك أدلة كثيرة، لكن نكتفي بذكر واحد منها -فقط- وهو القصة المشهورة الصحيحة: قصة عمر مع حذيفة رضي الله تعالى عنهما.

حيث كان عمر رضي الله عنه ينظر إلى حذيفة فإن صلّى على الجنازة صلّى، وإن لم يفعل لم يفعل؛ لأن حذيفة رضي الله تعالى عنه يعلم المنافقين بأعيانهم، وقد أطلعه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أعيانهم، لكن مع ذلك لم يقل حذيفة: يا أصحاب رسول الله! هؤلاء المنافقون لا تصلوا عليه، وكذا عمر وهو أمير المؤمنين لم يأمر الناس بذلك، وإنما هو بنفسه لم يفعل.

والحقيقة أن الرسالة عظيمة وقيمة، لكن أقول: هناك قضايا لا بأس أن نبسطها، وهي قضايا مهمة جداً، تدل على حكمة الدعوة وحكمة المعاملة، وشَيْخ الإِسْلامِ في رسالة الحسبة ورسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي رسائل كثيرة بسط هذه المسألة، بل هي ظاهرة في السنة كظهور الشمس لمن أراد الحق وتبينه.

فـ عمر أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه، ومع قوته في الحق التي لا تخفى، وهو الذي لم يرفع المبتدعة رأساً في زمنه، ولم يستطع الخوارج ولا الشيعة ولا غيرهم أن يرفع رأسه في زمنه، لقوته في الحق رضي الله تعالى عنه كان يستطيع أن يقول للناس: لا تصلوا، فكيف يقتصر على نفسه هو ولم ينه غيره؟ وذلك لأن هذا الأمر فيه سعة، فصلاتك عليه أنت تؤجر عليها لأنك صليت وامتثلت أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا تعني صلاتك عليه: شهادتك له بالإيمان.

وحتى لو شهدت له وقلت: هذا رجل مؤمن -مثلاً- مع أنه رجل باطني مرتد، أو رافضي وأنت شهدت أنه مؤمن على ما ظهر لك فإن الله لا يؤاخذك على ذلك! وسيأتي المصنف بالشواهد الكثيرة.

والشاهد أن الصلاة صحيحة خلف مستور الحال، وكذا الصلاة عليه.

بل ذهب الأئمة في كتب الفقه إلى أبعد من ذلك، كما في المغني والمجموع للنووي أنه لو قتل في المعركة واختلط أموات الكفار بشهداء المسلمين، قال بعض العلماء: يغسل الجميع ويكفن الجميع، ويصلى على الجميع، وقيل: يصلى عليهم واحداً واحداً، قالوا: وذلك تغليباً لجانب الإسلام.

والكلام معروف في أن الشهداء لا يصلى عليهم، لكن قد يكون قتال فتنة، وقد يكون دماراً أو زلزالاً.

المهم إذا قتل مجموعة، واختلطت جثث الكفار بجثث المسلمين في غرق أو حريق أو أي شيء آخر.

والمقصود أن الأئمة نظرتهم كلهم نظرة تغليب الإيمان، ولم يقل أحد أن الجميع يدفنون بلا صلاة ولا كفن لوجود كفار بين هؤلاء المسلمين.

مع أنه قد يكون في المسلمين -والله أعلم- من نعلم حقيقته في الباطن أنه مرتد، لكن يجب علينا أن نعامله بالظاهر، ولم يكلفنا الله تعالى بغير ذلك، ولا يحاسبنا على غير ذلك، وإن أخطأ أحد فنسب مؤمناً إلى النفاق أو الردة، أو أخطأ فنسب مرتداً إلى الإسلام مجتهداً مخطئاً؛ فهذا لا مؤاخذة عليه، والأدلة الصحيحة على ذلك كثيرة، وسيأتي بعض منها -إن شاء الله- هنا.