ننتقل إلى مرحلة أخرى وهي مرحلة العلم التجريبي الذي استفاده علماء أوروبا من المسلمين، وبدءوا يجربون وينظرون للكون نظرة تجريبية، ومن حكمة الله عز وجل وقدره أنَّ النظريات الكونية سبقت النظريات الإنسانية.
فإن مجال النظريات الكونية هو العقل، قال تعالى:{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ}[يونس:١٠١]{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ}[الأنعام:١١] والآيات كثيرة ومعروفة.
فالنظر في الكون هو من شأن الإنسان ومن شأن العقل، ولكن النظر في الإنسان ونفسه واجتماعه وتشريعاته، فهذا ليس من شأن البشر، فقد قدر الله عز وجل أن أول ما يصطدم مع خرافات النصارى هو النظريات الكونية، فظهرت التجارب العلمية قليلاً قليلاً، كان منهم جاليليو الذي قال -وهذه كلمة ليست سهلة عندهم-: (إنَّ الأرض تدور) فيترتب على ذلك مصائب كثيرة جداً.
وحتى ندرك الفرق بين النظرية ذاتها في الإسلام -صحت أم لم تصح- وبينها في دينهم، أنه إذا بطلت الخرافة؛ فمن الطبيعي أن ينتهي الدين الذي يحمل هذه الخرافة، لكن دين الله عز وجل وحي منزل كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ}[الأنبياء:٤٥] والجانب العلمي البشري منه متروك للإنسان، فليخطئ الناس إذا قالوا: تدور مثلاً، أو قالوا: لا تدور، فهذا لا يمس الدين نفسه، لكن رجال الكنيسة شعروا بأنَّ مجرد أية نظرية تخرج عن غير ما قرروه هم، أنَّ هذا بداية الخروج على الكنيسة، ولو خرج الآن شبراً، فسيصل بعد ذلك إلى ذراع، ثم سيكون الخروج الكلي وهو ما حصل فعلاً! فبدءوا بتعذيب جاليليو، حنى قتلوه في الأخير.
ثم جاء رجل كان له دور أخطر وهو كوبرنيك وقال: 'إن مركز الكون هي الشمس، وأن الأرض تدور، وهي كوكبٌ تابعٌ للشمس' وهو قد قرأها في كتب قديمة، وطالع فيها كثيراً عن علماء المسلمين حيث ذكروا حجم الشمس وأنها أكبر من الأرض -وهذا معروف ولا مجال الآن لذكره- المهم أنَّه قال هذه الحقيقة، فقال أعضاء الكنيسة: لو قلنا: إن الأرض كروية، لكان الناس الذين في النصف الثاني من الأرض يمشون وأرجلهم فوق، وهذه أفكار شيطانية! الغريب أن كوبرنيك نفسه كان قسيساً! وكذلك نلاحظ أن أبطال أوروبا في الفكر أكثرهم كانوا قسيسين وأبناء قساوسة؛ وذلك لأن السيطرة العامة على أي شيء اسمه العلم أو الكتابة كانت بيد الكنيسة، ولذلك لا يتخرج إنسان متعلم إلا وهو قد تربى في دير أو في كنيسة.
ولم يكتفوا بذلك؛ بل جاءوا بهذا القسيس العاق كوبرنيك فهددوه بالتعذيب والقتل فاعترف أمامهم بأنَّ هذه فكرة أوحى له الشيطان -لعنه الله- بأن الشمس مركز الكون، وإنما الشيطان هو الذي سوَّل له فكتب ما كتب! ولا زال هذا الكتاب محفوظاً وهو علمي على قدر عصرهم، هكذا اضطر أن يعترف في المحضر: أن الشيطان جاءه في النوم وأوحى إليه بذلك وها هو يتوب ويعود إلى الإيمان والدين! فهذه كانت مرحلة مهمة، ثم تتالت بعدها المراحل فتطور الأمر -لأن الخرافة لا تثبت- بعد كوبرنيك، وجاء نيوتن، ونظريته بسيطة وهي: نظرية الجاذبية، وهي مبسطة ومعروفة لنا جميعاً بأن الكائنات أو الكواكب جميعاً تتماسك بفعل الجاذبية، فهذه نظرية ليس فيها إشكال، ولا يترتب عليها أية إساءة للدين، وهو تفكير عقلي وطبيعي، فنظرية نيوتن نظرية بشرية لا إشكال فيها، إلا أن الكنيسة اعتبرت هذه خارقة أعظم من مصيبة كوبرنيك، وأعلنوا في منشورات وزعوها في طول أوروبا وعرضها أن هذا ملحد وكافر الخ.
بينما هو يعلن أنه مؤمن بالله وأن هذا لا يتعارض مع الإيمان، المهم أنه أعطى ما يسمى تفسيراً فهو لاحظ أنَّ الكون متناسق ومستقيم بطريقة ميكانيكية.