أولاً: دعوى رد الرسالة
إن كثيراً من الناس يغره الزمن الذي يعيش فيه، وقد وقع ذلك في الأمم التي من قبلنا، فكانوا يظنون أنهم بلغوا غاية الحضارة وغاية العلم كما بيَّن ذلك سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فقال: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر:٨٣] وهكذا كانت حالة الأمم.
فكانت كل أمة تأتيها دعوة الله تبارك وتعالى إلى التوحيد وإخلاص العبودية لله، تقول: نحن لدينا العلم لدينا ما يكفينا لدينا حضارة لدينا وسائل للحياة وللترفيه وللسعادة؛ فلا حاجة لنا بما تدعونا إليه ومما يطبع على قلوب العباد، ومما يسبب لهم الإعراض عن ذكر الله تبارك وتعالى، ويصدهم عن دعوة الأنبياء وعن دعوة الدعاة، وعن دعوة المصلحين في كل زمان ومكان.
فالتعلق بهذه الحياة الدنيا إيثار الحياة الدنيا على الآخرة، وعلى ما عند الله تبارك وتعالى، فيظن الإنسان أنه في هذا العصر قد بلغ الحضارة التي لا غاية بعدها، وهو بذلك ليس بحاجة إلى الدين؛ فكأن الدين جاء لعصر متأخر، أما نحن في عصر الحضارة هذه، فلا حاجة بنا إلى العبودية، والكبر الموجود في النفوس يرتفع بها عن أن تخضع لعبودية الله تبارك وتعالى.
وهذا جواب قديم أجاب به قوم فرعون، وأجابت به عاد وثمود وقوم نوح، وكل من سبقنا من الأمم التي ذكر الله تبارك وتعالى؛ أنهم أثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمرها من بعث فيهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذين ما بلغوا معشار ما آتى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تلك الأمم.
وما تزال آثارهم باقية شاهدة، كالآبار المعطلة، والقصور المشيدة، والسدود المنيعة، والحصون، والأهرامات، ومدائن صالح، وهي الأماكن التي تقصد للسياحة.
سبحان الله العظيم! النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرنا -وهو مفهوم كتاب الله عز وجل ومنطوقه- إذا مررنا بهذه الديار أن نمر بها مستعبرين، أي: باكين مسرعين، وألاَّ نقيم فيها؛ فهي ليست للتفرج ولا للتنزهه، لا الأهرام ولا مدائن صالح ولا سد مأرب ولا كذا ولا كذا، إنما هي للعبرة والاتعاظ.
ولكن أين المعتبرون؟! وأين المتعظون؟! فالله تعالى جعلها علامات شاخصة ناطقة، تشهد بما فعلت الأمم التي قبلنا، حيث قال سبحانه: {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر:١١ - ١٣] ثم قال بعد ذلك: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:١٤]، أي: فمن عمل مثل عملهم جوزي بمثل جزائهم وعوقب بمثل عقوبتهم، قال سبحانه: {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:٤٠]، أي: هكذا الأمم، فكل أمة أخذت بذنبها، وإن اختلفت وتنوعت العقوبات.
فبقيت هذه الآثار شاهدة على أن الحضارات مهما تطورت، ومهما تقدمت، وتفننت بأساليب العيش، أو بالقصور المشيدة، أو بالمزارع الفخمة، أو بوسائل الترفيه، أو بوسائل التسلية؛ فإنها لابد أن يكون مصيرها إلى الدمار والخراب إذا عصت الله عز وجل وفسقت عن أمره تبارك وتعالى.
فالمسارح الرومانية ما تزال إلى اليوم وهي مسارح كان يجتمع فيها الرجال والنساء ويرقصون ويمرحون، وكانت فيها حلبات للمصارعات الحرة بين الرجال والوحوش وكل هذا كان في القديم، فالدورات الأولمبية التي نسمع عنها اليوم، كانت موجودة عند اليونان بجميع أنواع الألعاب المختلفة، وكانت معروفة لديهم.
إن كل أمة أخذت في هذا الجانب كانت تظن أنها في غاية الحضارة وقمتها، وأن أي داعية يدعوها إلى الله وإلى الدار الآخرة؛ فإنه لا استجابة له ولا إذعان ولا قبول؛ لأنه يدعونا لأن نترك هذه الوسائل وهذه الحضارة وننسلخ منها، ونطلب المتاع الذي لا يريدون أن يطلبوه، ويؤثرونه على ما عندهم من المتاع، ثم خلف الله تبارك وتعالى من بعدهم بالخلوف، وجئنا نحن في هذا العصر، واستجدت في هذا العصر أحداث وأحداث، حتى ظن الناس -بما أنهم اليوم قد ركبوا الطائرة أو السيارة، أو أن بعضًا منهم قد غزا الفضاء وما أشبه ذلك- أن أمر الدين وأمر الله تبارك وتعالى كله أو بعضه لا ينبغي أن يقال أو أن يقدم في هذا العصر عصر الحرية عصر الانطلاق عصر كذا وكذا.