[الوسطية]
ومما يميز أهل السنة والجماعة ويختصون به دون غيرهم من الطوائف، أنهم أمة وسط، وهذه الوسطية تتجلى في أمور الإيمان والعقيدة جميعاً، فكما أن هذه الأمة -أي أهل القبلة عموماً- جعلها الله تبارك وتعالى أمة وسطاً، فـ أهل السنة هم وسط هذه الأمة وخيارها، وأصحاب المنهج الوسط في هذه الأمة، فلو أخذنا نضرب الأمثلة من أبواب العقيدة والإيمان باباً باباً لطال بنا المقام، ولكن نوجز ذلك بما يتضح به هذا المنهج القويم: فمثلاً في صفات الله تبارك وتعالى نجد أن الطوائف قد ضلت، فمنهم من أثبت وغلا في الإثبات حتى مثَّل الله تبارك وتعالى بخلقه، وهؤلاء هم أهل التمثيل أو التشبيه، وهؤلاء هم كما اعتبرهم السلف الصالح عباد صنم، لأنهم جعلوا صفات الله تبارك وتعالى مماثلة لصفات المخلوقين.
وفي المقابل نجد أولئك الذين نفوا صفات الله تبارك وتعالى، وغلوا في التنزيه -بزعمهم- حتى لم يثبتوا له تبارك وتعالى شيئاً من صفاته أو أنكروا بعضاً منها، وهؤلاء كما قال فيهم السلف: [[الممثل يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً]] فوصفوا الله تبارك وتعالى بالعدم (بالصفات السلبية).
كما نقول في صفة العلو -مثلاً- ونؤمن -نحن أهل السنة والجماعة - كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أن الله تبارك وتعالى على العرش استوى، وأنه فوق جميع المخلوقات، فيقول هؤلاء -أي الممثلة -: استوى كالمخلوقين، ويقول أولئك -أي المعطلة -: لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا يميناً ولا شمالاً!! نعوذ بالله من الزيع والضلال.
وأما أهل السنة فهم وسط، فيثبتون لله كل ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الصفات إثباتاً لا تمثيل فيه، وينفون عن الله تعالى ما لا يليق به نفياً لا تعطيل فيه، من غير تحريف، ومن غير تكييف، هذا هو المذهب السليم الصحيح الذي عليه أهل السنة والجماعة جميعاً.
ولننتقل إلى باب آخر -فمثلاً- في باب الإيمان والأحكام والأسماء، نجد أن بعض طوائف الأمة قد غلت حتى كفرت من يرتكب ذنباً دون الكفر أو الشرك، وأخرجته من الملة، أو حكمت عليه بالخلود في النار، ونجد بالمقابل من استهان وفرط بالأمر حتى جعل أهل المعاصي والكبائر والفجور مؤمنين كاملي الإيمان.
فـ الخوارج وتبعهم في ذلك المعتزلة يقولون: إن مرتكب الكبيرة كافر كما تقول الخوارج، أو هو في منزلة بين الإيمان والكفر كما تقول المعتزلة، فغلوا في ذلك فجاءوا إلى كل ما ذكر الله تعالى أو رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المعاصي والكبائر كالزنا وشرب الخمر والسرقة وأمثالها، فجعلوا مرتكب ذلك كافراً خارجاً من الملة، مثل من عبد غير الله تبارك وتعالى، فهذا غلو، رغم أن هذا الغلو كانت تصحبه العبادة، ويصحبه الزهد في الدنيا -كما سيأتي إن شاء الله- فيما يتعلق بهذه الخاصية.
وأما المرجئة فإنهم قالوا: إن العبد إذا قال لا إله إلا الله، وشهد لله بالوحدانية وأقر لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة فإنه مؤمن كامل الإيمان وإن عمل ما عمل، وأنكروا أن الإيمان يزيد وينقص، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، فكلاهما خرج عن الجادة الصحيحة وعن الصراط المستقيم، وعما جاء صريحاً في كتاب الله وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومما هو معلوم -كما لا يخفى على أحد يقرأ كتاب الله عز وجل- أن الله تبارك وتعالى فرق في الحكم بين من يشرك به ويعبد غيره، وبين من يرتكب شيئاً من هذه المعاصي، كما فرق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأدلة كثيرة لا تحصى فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجم الزاني، وقطع يد السارق، وجلد شارب الخمر.
فلو كانت كل هذه الذنوب ردة وكفراً كالكفر الأكبر الذي هو الخروج من الملة؛ لكان حكم هذه الذنوب واحداً ولا تفريق بينها، وأيضاً نقول للمرجئة: لو كان العاصي والفاجر كامل الإيمان؛ فما معنى تلك الآيات العظيمة التي جاءت في صفات المؤمنين، وفي بيان أحوالهم وصفاتهم وما يتميزون به عن غيرهم، وتلك الآيات القطعية من كتاب الله تبارك وتعالى في بيان أن الإيمان يزيد وينقص، وما جاء كذلك في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فوفق الله تبارك وتعالى أهل السنة فكانوا أمة وسطاً بين هؤلاء وأولئك.
وإذا انتقلنا إلى باب آخر من أبواب العقيدة والإيمان، وهو باب القدر الذي ضلت فيه العقول والأفهام التي ابتعدت عن كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووفق الله تبارك وتعالى أهل السنة والجماعة فكانوا على الجادة والصراط المستقيم فإن القدرية -أي الذين نفوا القدر ولم يثبتوه- غلوا في تحميل العبد للمسئولية عند فعل المعصية، فقالوا: العبد مسئول عما يفعل من المعاصي، وغلو في ذلك حتى قالوا: إن الله لم يقدر عليه هذه المعاصي ولم يخلقها فيه! ثم غلوا حتى جعلوا جميع أفعال العبد هو الذي يستأنفها من عند نفسه، والله تبارك وتعالى لم يكتبها ولم يقدرها عليه!! وغلا بعضهم فقال: لم يعلم بها إلا بعد وقوعها! -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراًً- كل ذلك غلو وجموح عن الصراط القويم.
فقابلتهم الجبرية فقالوا: لا حيلة للعبد ولا إرادة له ولا اختيار، وغلو في إثبات القدر -بزعمهم- حتى آل بهم الأمر إلى أن جعلوا الإنسان كالريشة في مهب الريح لا إرادة له ولا اختيار، فكل الأمور بالقدر، وكل شيء قدره الله، حتى إذا فعلوا المعاصي وانتهكوا حرمات الله قالوا: هذا بقدر الله وليس لنا في ذلك أي ذنب، فهؤلاء وهؤلاء في ضلال مبين.
ووفق الله تبارك وتعالى أهل السنة والجماعة فتمسكوا بصريح القرآن والسنة، فأثبتوا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الخالق لأفعال العباد كما أنه الخالق لكل شيء لقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:٦٢] {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:٩٦] وفي نفس الوقت أثبتوا أن العبد هو الفاعل، فالعبد هو الذي يفعل أفعاله كما هو في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:٧ - ٨] فالعبد هو الفاعل والله تعالى هو الخالق، والعبد يفعل بمقتضى مشيئةٍ وإرادةٍ خلقها الله تعالى فيه وأعطاه إياها، ولكن كما قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:٣٠].
فالمشيئة التي تنفذ وتتحقق ولا يردها شيء هي مشيئة الله تبارك وتعالى، والعبد مع أن له مشيئة يتصرف بها ويكون مسؤولاً عما تمليه عليه من الأعمال؛ إلا أن هذه المشيئة لا تكون إلا بعد مشيئة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكل ذلك في علمه تبارك وتعالى، فهو كما صرح في القرآن وفي الحديث قد كتب مقادير كل شيء عنده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:١٢] وكتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة -كما جاء ذلك في الحديث الصحيح.
فـ أهل السنة والجماعة لا يردون أي آية ولا حديث في القدر بحجة أنه يؤدي إلى الجبر، أو يؤدي إلى نفي مسؤولية العبد، بل يوقنون بالجميع، وأما أولئك فإنهم لا بد أن يردُّوا تلك الأدلة فـ القدرية النفاة يردون كل حديث أو آية تدل على إثبات القدر، أو -بزعمهم- تدل على الجبر كقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:١٧].
وكالحديث الصحيح المتفق عليه في محاجة آدم وموسى عليهما السلام {فقال موسى لآدم: أنت أبونا الذي أخرجتنا من الجنة، فقال آدم عليه السلام: أنت موسى الذي اصطفاك الله تعالى برسالته وبكلامه، أتلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني بأربعين عاماً، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى}.
وكذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وهو المسمى حديث الصادق المصدوق الذي يقول في أوله: حدثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق {إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله تعالى الملك فينفخ فيه الروح، ويأمر بكتب أربع كلمات: رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها} فأنكروا هذا الحديث، وأنكروا كثيراً من الأحاديث رغم ثبوتها وصحتها، لأنها -بزعمهم- تفضي إلى الجبر.
كما أن أولئك الجبرية أنكروا كل ما يدل على استقلال العبد بفعله، وأنه هو الذي يفعل، وبذلك أنكروا كل ظواهر القرآن الصريحة في أنه هو الذي يعمل كقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:٥ - ١٠] فأنكروا أن العبد هو الذي يعطي أو يصدق أو يكذب أو يبخل، وجعلوا الفعل كله لله تبارك وتعالى.
والمقصود أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وفَّق أهل السنة والجماعة فآمنوا بكل الآيات وبكل ا