تفسير قوله تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ)
وقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:٥٠] فأكثر الناس هذا حالهم.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: 'قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:٥٠] ينكر تعالى على من خرج -أي: الاستفهام هنا للإنكار- عن حكم الله المحكم، المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ماسواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله'.
وهذا كلام نفيس يكتب بماء الذهب، فلا يعدل الإنسان أو يخرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، في كل زمان وعصر، ولا يعدل إلى ماسواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، أي: سواء كانت فلسفات أو قوانين أو أعرافاً أياً كانت ' التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله '.
أي: إن القضية ليست قضية اجتهاد من العلماء في النصوص.
قال: 'كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات '.
فـ ابن كثير رحمه الله تعالى حكيم في كلامه، حيث قدم بمثال متفق عليه، ثم انتقل إلى المثال الواقع في عصره، فأول ما مثّل قال: 'كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم'.
فالعرب في الجاهلية في عكاظ -السوق الجاهلي القديم- ومجنة وذي المجاز عندهم حكماء غالباً إما كهان وبعضهم قد يكون مما آتاه الله بلاغة وبياناً ويسمونه: الحاكم، يأتي الناس ويتحاكمون إليه، ويحكم كما يشاء فيما يشاء بلا دليل ولابرهان من الله ولا أحد من رسله، فيفرق بين المتماثلين ويماثل بين المتفرقين، والكاهن يدَّعي أن العلم جاءه من رائيه، فينطق ويقول: أخبرني هذا، أي: شيطانه، والشيطانين يوحون إلى أوليائهم، فيحكم بينهم، وكانوا يتحاكمون إلى الأزلام، ويستقسمون بها، ويقولون: اضرب القدح، فإذا كان كذا عليك كذا، وإذا انقلب كذا عليك كذا، بلا بينة ولاسماع.
وهذا مثال آخر: امرؤ القيس لما قتل أبوه كان عربيداً سكيراً، أي: متحرراً متطوراً، وكان يظن أنه يعيش حياة عصرية -كما يقولون- فلما قتل أبوه رجع، وقال: اليوم خمر وغداً أمر، ماذا أفعل بقتلة أبي؟ فقالوا: تذهب إلى ذي الخلصة الذي في بلاد دوس تستشيره في أن تقتل قتلة أبيك أم لا؟ وذهب امرؤ القيس إلى ذي الخلصة كما ذكر الكلبي في كتابه الأصنام -وذكره غيره- واستقسم بالأزلام عند ذي الخلصة وفي كل مرة يكون نصيبه لا تفعل، والعرب دائماً عندهم الثأر، فقال:
لو كنت يا ذا الخلصة الموتورا يوماً وكان شيخك المقبورا لم تنه عن قتل العداة زورا
ورمى الأزلام، ورحل إلى قيصر يستنجد به، يريد أن يستعين به على كندة.
فالشاهد قوله: لو كنت يا ذا الخلصة الموتورا!! أي: الذي قُتل أبيه.
يوماً وكان شيخك المقبورا!! أي: كان أبوك الذي مات.
لم تنه عن قتل العداة زورا.
فهو يقول: تنهاني عن قتلهم؛ لأنه ليس أبوك هو المقتول، وذي الخلصة صخرة، لا درت ولا أفتت ولا أحلت ولا حرمت، ولكنها الضلالات والجهالات، كما قال سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُون} [المائدة:٥٠] فالناس هم من يبغون، وهذا المثال الواضح لا يخالف فيه أحد.