[أهل الذمة في عهد المتوكل والمقتدر بالله]
قال: 'وأما المتوكل: فإنه صرف أهل الذمة من الأعمال، وغيَّر زيَّهم في مراكبهم وملابسهم، وذلك أن المباشرين منهم للأعمال كثروا في زمانه، وزادوا على الحد وغلبوا على المسلمين، لخدمة أمه وأهله وأقاربه، وذلك في سنة (خمس وثلاثين ومائتين) هـ ثم ذكر بعض ماعملوا.
ثم قال: وعُرِضَ على المتوكل، فأُغري بهم، وظن ما أوجبوا من ذلك حقاً، وأن المال في جهاتهم كما أوجبوه.
أي أنهم أوجدوا وقيعة بينه وبين المتوكل، والقصه طويلة، فنختصرها.
قال: فدخل عبيد الله بن يحي على المتوكل، فعرفه مأثمة أهل الذمة على المسلمين وغيرهم، وأوقفه على خط سلمه، وقال: هذا قصده أن يخلو أركان دولة أمير المؤمنين من الكُتَّاب المسلمين، ويتمكن هو ورهطه منها.
وكان المتوكل قد جعل في موكبه من يأخذ المتظلمين ويحضرهم بين يديه على خلوة، فأحضر بين يديه شيخ كبير، فذكر أنه من أهل دمشق، وأن سعيد بن عون النصراني غصبه داره فلما وقف المتوكل على قصة الشيخ، اشتد غضبه إلى أن كادت تطير أزراره، وأمره أن يكتب إلى صالح عامله برد داره.
قال الفتح بن خاقان: فقمت ناحية لأكتب له بما أمرني، فأتبعني رسولاً يستحثني، فبادرت إليه، فلما وقف على الكتاب، زاد فيه بخطه، نُفيتُ عن العباس فلئن خالفتَ فيما أمرتُ به لأوجهن من يجيئني برأسك! ووصل الشيخ بألف دينار، وبعث معه حاجباً.
قال: وكثر تظلم الناس من كُتَّاب أهل الذمة، وتتابعت الإغاثات، وحج المتوكل تلك السنة فرئي رجلٌ يطوف بالبيت، ويدعو على المتوكل، فأخذه الحرس وجاءوا به سريعاً، فأمر بمعاقبته، فقال له: والله يا أمير المؤمنين ما قلت ما قلته، إلا وقد أيقنت بالقتل، فاسمع كلامي، وأمر بقتلي، فقال: قل.
فقال: سأطلق لساني بما يرضي الله ورسوله ويغضبك يا أمير المؤمنين، فقد اكتنفت دولتك كتاباً من الذمة، أحسنوا الاختيار لأنفسهم، وأساءوا الاختيار للمسلمين، وابتاعوا دنياهم بآخرة أمير المؤمنين، خِفْتَهم ولم تَخَفِ الله، وأنت مسئول عما اجترحوا، وليسوا مسئولين عما اجترحت؛ فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك؛ فإن أخسر الناس صفقة يوم القيامة، من أصلح دنيا غيره بفساد آخرته، واذكر ليلةً تتمخض صبيحتها عن يوم القيامة، وأول ليلة يخلو المرء في قبره بعمله.
فبكى المتوكل إلى أن غشي عليه، وطُلِبَ الرجل فلم يُوجَدْ، فخرج أمره بلبس النصارى واليهود الثياب العسلية -على زي خاص- وألَّا يُمكنوا من لبس الثياب، لئلا يتشبهوا بلبس المسلمين، ولتكن رُكُبُهُم خشباً -أي: لا يركبوا السروج كالمسلمين- وأن تُهدَّمَ بِيعُهُمْ المستجدة، وأن تطبق عليهم الجزية، ولا يفسح لهم في دخول حمامات المسلمين، وأن يُفْرَدَ لهم حمامات خدمها ذمة -أي: أن يكون الخدم في هذه الحمامات من أهل دينهم- ولا يستخدموا مسلماً في حوائجهم لنفوسهم.
أي: لا يجوز أن يستخدم الكفار أي مسلم في حوائجهم، فيكون خادماً أو عاملاً في خدمة الكفار.
وأفرد لهم من يحتسب عليهم من أهل الحسبة -وهم الذين نسميهم الآن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- فأفرد المتوكل قسماً خاصاً بالاحتساب على النصارى ليتأكد على قيامهم بهذه الأمور ومن تلبسهم بالذل والصغار وكتب كتاباً نسخته: أما بعد: فإن الله اصطفى الإسلام ديناً، فشرَّفه وكرمه، وأناره ونصره، وأظهره، وفضَّله، وأكمله، فهو الدين الذي لا يقبل الله تعالى غيره، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:٨٥] ثم ذكر الآيات الكثيرة في حكم أهل الكتاب، ومما ذكره الله تعالى عداوتهم للمؤمنين وآخرها.
قال: وقد انتهى إلى أمير المؤمنين أن أناساً لارأي لهم ولا رَوِيَّةَ يستعينون بأهل الذمة في أفعالهم، ويتخذونهم بطانةًَ من دون المسلمين ويسلطونهم على الرعية، فيعسفونهم، ويبسطون أيديهم إلى ظلمهم وغشهم، والعدوان عليهم؛ فأعظم أمير المؤمنين ذلك وأنكره وأكبره وتبرأ إلى الله تعالى منه، وأحب التقرب إلى الله تعالى بحَسْمِه والنهي عنه.
ورأى أن يكتب إلى عماله على الكُوَرِ والأمصار وولاة الثغور -الكور: جمع كورة وهي القصبة أو الناحية أو المنطقة- والأجناد في ترك استعمالهم للذمة في شيء من أعمالهم وأمورهم، والإشراك لهم في أماناتهم، وما قلدهم أمير المؤمنين واستحفظهم إياه، وجعل في المؤمنين الثقة في الدين والأمانة على إخوانهم المؤمنين، وحسَّن الرعاية لما استرعاهم، والكفاية لما استُكْفُوا، والقيام بما حملوا، مما أغنى عن الاستعانة بالمشركين بالله، المكذبين برسله، الجاحدين لآياته -وهذا كله كلام الخليفة- الجاعلين معه إلهاً آخر، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ورجاء أمير المؤمنين بما ألهمه الله من ذلك، وقذف في قلبه جزيل الثواب، وكريم المآب، والله يعين أمير المؤمنين على نيته في تعزيز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وحزبه، فليُعلم هذا من رأي أمير المؤمنين، ولا يستعانن بأحد من المشركين، وإنزال أهل الذمة منازلهم التي أنزلهم الله تعالى بها، فاقرأ كتاب أمير المؤمنين على أهل أعمالك، وأَشِعْهُ فيهم، ولا يعلمنّ أمير المؤمنين أنك استعنت ولا أحدٌ من عمالك أو أعوانك بأحد من أهل الذمة في عملٍ، والسلام'.
قال ابن القيم رحمه الله: 'وأما المقتدر بالله، فإنه سنة (خمسة وتسعين ومائتين) عزل كُتَّاب النصارى وعمالهم -فيتكرر العزل وما ذلك إلا إذا أتى من يقيم فيهم أمر الله، ثم يأتي بعد ذلك من يدعهم يتسلطون فيأتي من يرجعهم- وأمر ألَّا يُستعان بأحد من أهل الذمة، حتى أمر بقتل أبي إياس النصراني عامل أبي مؤنس الحاجب.
وكتب إلى نوابه بما نسخته: 'عوائد الله عند أمير المؤمنين توفي على غاية رضاه ونهاية أمانيه، وليس أحد يُظْهِرُ عصيانه إلا جعله الله عظةً للأنام، وبادر بعاجل الاضطلام والله عزيز ذو انتقام'.
فمن نكث وطغى وبغى وخالف أمير المؤمنين، وخالف محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسعى في إفساد دولة أمير المؤمنين، عاجله أمير المؤمنين بسطوته، وطهر من رجسه دولته، والعاقبة للمتقين، وقد أمر أمير المؤمنين بترك الاستعانه بأحد من أهل الذمة في عمل من الأعمال، فليحذر العمال تجاوز أوامر أمير المؤمنين ونواهيه'.