[لماذا لا يخاف الإنسان في الله لومة لائم؟]
لا بد أن يهتم الإنسان دائماً بهذا الجانب: {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:٥٤] ولا يخاف أبداً ما دامت أعماله حقاً، وبميزان الكتاب والسنة.
فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا دائماً يتحرون الحق حتى في الأمور المندوبة، وفي السنن المستحبة، ويعلل أحدهم ذلك بأني لا أخاف في الله لومة لائم.
أقول: هذه الجملة من الآية من المهم جداً لطلبة العلم أن يتدبروها، يقول ابن رجب رحمه الله: ' فإن من تمام المحبة مجاهدة أعداء المحبوب، وأيضاً فالجهاد في سبيل الله دعوة للمعرضين عن الله إلى الرجوع إليه بالسيف والسنان، بعد الدعاء إليه بالحجة والبرهان، فالمحب لله يحب اجتلاب الخلق كلهم إلى بابه' كما قال بعضهم: وددت لو أن لحمي قرض بالمقاريض، وأن أحداً لم يعص الله عز وجل.
وهذا من غيرته على دين الله، وغيرته أن تنتهك حرمات الله، ومن تعظيمه لله، ومن محبته لله لا يريد أن أحداً يغضب الله أو يتعدى حدود الله، فيؤثر أن يقرض بالمقاريض ولا يعصى الله عز وجل.
فالمحب لله يحب أن يكون الخلق كلهم عبيداً لله طائعين له، ولا يرضى أن أحداً منهم يعصي الله أويتجاوز حدوده، قال: 'فمن لم يجب الدعوة إليه باللين والرفق احتاج إلى الدعوة بالشدة والعنف: {عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل} {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:٥٤] لا همَّ للمحب غير ما يرضي حبيبه، رضي من رضي، وسخط من سخط'.
وابن رجب عادته كعادة ابن القيم يتكلم بروحانية وبشفافية، فيأتي بأساليب وعبارات أدبية، ثم يستشهد بالشعر، وكأنه لا يتكلم بكلام الفقيه أو المؤصل لأنها لا تكفي، فينتقل إلى واحة الشعر والأدب، ويبدأ يعبر هذه التعبيرات الأدبية الجميلة، ويقول: ' لا همَّ للمحب غير ما يرضي حبيبه رضي من رضي، وسخط من سخط، فمن خاف الملامة في هوى من يحبه فليس بصادق في المحبة ثم أتى بهذه الأبيات:-
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخر عنكم ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمني اللوم
' وهذه الأبيات يقول فيها بعض الناس: إنها أبلغ أبيات قالتها العرب في الحب، وهذه الأمور ذوقية، وقد ترى أنت أن غير هذا أبلغ، لكن يقال في حق هذه الأبيات أو هذه القصيدة: إنها أبلغ ما قيل في المحبة وفي الحب: ثم قال في البيت الآخر:
وأهنتني فأهنت نفسي جاهداً أين المهان لديك ممن يكرم
أي: من أجلك أهنت نفسي، ثم قال:
أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمني اللوم
كل من يلوموني أفرح؛ لأنه يلوموني في حبك، فهم يذكرونني بك، كما يقول:
لقد نقل الواشون عنك فقد سرني أني خطرت ببالك
وهذه قالها أحد شعراء الهوى، يقول: كلما يقولون عنك أنك لا تحبني، أنا أفرح به لأن المهم عندي أني خطرت ببالك، فانظر إلى هذا الحب العظيم العميق، سبحان الله! لكن كيف يكون شعور المؤمن إذا ذكر الله فإنه يستشعر أن الله يذكره، كما يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: {أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي} الله أكبر! جبار السماوات والأرض سبحانه الغني الحميد الذي يقول: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم:٨]، ويقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:١٥] يقول: {إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي} أي حبيب في الدنيا كهذا، وبدون واسطة يعلم أن هذا ذكره، ثم قال: {وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه} فمهما تخيلت من ملأ في الدنيا، فالملأ الأعلى -المقربون عند الله تعالى- هم خير من هذا، ولهذا لما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للصحابي أبي بن كعب: {إن الله أمرني أن أقرأ عليك، قال: أو قد سماني الله عز وجل وذكرني باسمي، قال: فبكى}.
هكذا يكون المحبُ المحبةَ الحقيقية، أما أهل الهوى فيقولها في حق المحبوب.
فالعملية واحدة، والتضحية واحدة، والتعلق والتعب والمشقة لا بد منها، ولذلك لا تجد أحداً حتى من أكثر الناس تطفلاً على الحب -كما يسمونه- وعلى الغزل، إلا ويكتب: الحب عذاب على سيارته، وعلى أوراقه، وعلى كتاباته، فما دام عذاباً فلا تتعذب من أجل أي شيء، بل ينبغي إذا أحببت شيئاً وتعبت من أجله، فليكن مِنْ مَنْ يستحق ذلك الحب، ولا شيء يستحق أن يُحب على الحقيقة إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن والاه عز وجل، فلهذا يقول العلماء الربانيون، ومن يعرفون الله عز وجل: إن مثل هذه الأبيات التي تقال في حق المحبوبين -لغير الله- لا يليق أن تقال لغير الله عز وجل.
مثلاً: أبو فراس له أبيات عظيمة جداً في الحب، يقول:
فليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
فهذا كلام عظيم جداً، لكن لمن تقول هذا يا أبا فراس؟ كتب الرسالة إلى سيف الدولة، وسيف الدولة ابن عمه وكان يحبه؛ لكن لما اختلفا على الملك تقاتلا فكتب له هذه الرسالة، وكم تقاتل من إخوة وآباء وأبناء على الملك والدنيا، إذاً لا يستحق أحد أن يكون الذي بينك وبينه عامر ولو خرب ما بينك وبين العالمين، وأن تراقب وتراعي رضاه، ومحبته، ورغبته، وما عدا ذلك فكل ما فوق التراب تراب إلا الله عز وجل فقط، أما ما عداه فلا، ولو دققت النظر فإنك تجد أن هذا الكلام يقال على سبيل المبالغة التي لا تصل إلى درجة الحقيقة.
لكن بالنسبة لله عز وجل يمكن أن يكون وأن يوجد على الحقيقة.