للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الانحراف في مفهوم قوله تعالى: (وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)

وهنا مدخل للصوفية الذين يكثرون من هذه الأشعار، ومن هذه الدعاوى، فإن الصحابة رضي الله عنهم والتابعون ومن بعدهم من الصالحين حققوا هذه المحبة على الحقيقة عملاً في قلوبهم وأحوالهم، أما الصوفية فادعوها دعوى -فقط- بغض النظر عن الزندقة، والكذب، ودعوى المحبة التي ليست إيمانية، ولو نظرنا إلى من يتكلم بهذه المحبة والوجد والهيام والشوق لوجدناها كلها دعاوى، وأشعار تقرأ وتنشد ويبكى عند سماعها، أما حقيقة هذه الأشعار والأذواق والأوجاد فقد عاشها الصحابة رضوان الله عليهم حقيقة، والتابعون، وأولياء الله العباد الصالحون، وإن لم يتمثلوا بها شعراً.

فهؤلاء الصوفية مثل الذي يتكلم ويتغزل بمحبوبته، والآخر مثل الذي حصل على ما يحب، وبذل، وأعطى، وأنفق، وأكرم حبيبه، وضحى من أجله بالفعل، هكذا الفرق بين هذا المتمني من بعيد، وبين الذي يحب ويدفع ويبذل ويضحي وإن لم يقل بيتاً من الشعر في هذا المحبوب.

فهذه الأبيات إنما تليق بالله تعالى، على تعديل بعض العبارات أحياناً، فقوله:

وقف الهوى بي حيث أنت

يجب أن تقف رغبتك ومحبتك وميولك حيثما كان أمر الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا تكون متقدماً عنه ولا متأخراً، هذا الذي يليق بك أن تكون، لا تغلو فتزيد من عندك في الدين ما ليس منه ولا تقصر؛ لأن السنة كما قال الحسن: [[وسط بين الجافي عنها والغالي فيها]] فلا تتقدم ولا تتأخر عن ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ثم قوله:

أجد الملامة في هواك لذيذة

نقول: يجب على الإنسان المؤمن أن يجد الملامة في محبة الله، وفي طاعة الله لذيذة.

وقوله:

حباً لذكرك فليلمني اللوم

فليلم اللوم، وليقولوا ما شاءوا، لماذا؟ لأن غاية ما يقولونه، هو نفس ما ذكره شعراء الغزل:

وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا سوى أن يقولوا إنني لك عاشق

أي أنه يقول: دعهم يسبوني وليقولوا: إنني عاشق، فهذا شيء أنا أفتخر به، وهذا المعنى أولى أن يحققه المؤمن؛ لأنه ماذا عسى أن يقول الناس فيك، إلا أنك محب لله، تجاهد في سبيل الله، وتدعو إلى الله؟ فليكن ذلك، وهل هناك شرف أفضل أو أعظم من هذا؟ هذا هو التعرض للوم الحقيقي.

وتعلمون أن طائفة من الصوفية سمت نفسها الملامتية، وألف فيهم أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي المعروف كتاباً مطبوعاً -وإن كان قليل التداول- سماه الملامتية، وهؤلاء الملامتية لماذا سموا بذلك؟ لأنهم يقولون: افعل أي شيء تلام عليه، واحرص واجتهد؛ لكي يلومك الناس من أجل العبادة، وكما يقول بعضهم: اذكر الله حتى يقال: إنك مجنون، اتركهم يلومون ويقولون مجنون، وقد ووصل الحال ببعضهم إلى أن يشبه المجانين، حتى إن بعضهم -نسأل الله العفو والعافية- غلا في ذلك فأصبح يرتكب بعض المحرمات وهو يعلم أنها محرمة؛ حتى يلومه الناس وحتى يسقط من أعينهم.

فهذا فهم ضال في اجتناب الرياء، واجتناب الغرور، أو الاغترار وتعظيم الناس، فانظروا كيف الأدواء النفسية صعبة جداً، والواحد لا يستطيع أن يعرفها، حتى قيل: إن أولياء الله وعباد الله من الصوفية إنما هربوا وفروا عن القضاء، وعن العلم، وعن مجالس الفتيا، وعن التبحر في المسائل، وعن التقرب إلى السلاطين، حتى يجتنبوا الناس، ويجتنبوا الدنيا، ويجتنبوا الاغترار والعجب؛ فلبسوا الثياب المرقعة؛ وأخذوا يأكلون مما يعطيهم الناس من أبسط العيش، وعاشوا بعيدين عن الناس، فسلموا من هذا.

ولكن تدرج الحال فأصبح الناس لا يعظمون القاضي لكونه قاضياً، أو الفقيه لكونه فقيهاً، إنما يعظمون من يسمونهم أولياء لله، فإذا وجدوا إنساناً في زاوية من زوايا المسجد يذكر الله، ويسبح، ويقرأ القرآن، وثيابه رثة عظموه وأكرموه وأجلوه، وقالوا: ادع الله لنا، وتمسحوا به، وتبركوا به، وأينما ذهب يتبعونه، فقالوا: إذا كان أن الأمر كذلك فالحل أننا نخالف مراد الناس، فنفعل أفعالاً يحتقرها الناس، ويتركونا من أجلها، حتى إن بعضهم كان يمشي في السوق فما وجد وسيلة ليصرف الناس عنه -لأنهم كانوا يمشون وراءه ويعظمونه- إلا أن سرق جوزاً من السوق وأخذ يأكلها فكرهه الناس، وقالوا: هذا ليس ولي، فتركوه وتفرقوا عنه.

فيقول أصحاب الملامتية، أصحاب المنهج الضال، الذين يعالجون الضلال بالضلال والخطأ بالخطأ: يجب على الإنسان أن يتعرض لما يلام عليه، وأن يعمل أعمالاً يلام عليها، فيسلم من العجب والرياء والغرور وما إلى ذلك.