[فهم خاطئ]
يقول: 'وليس معنى ما ذكره العلماء من تغير الفتوى بتغير الأحوال ما ظنه من قلَّ نصيبهم أو عُدِم من معرفة مدارك الأحكام وعللها، حيث ظنوا أن معنى ذلك بحسب ما يلائم إراداتهم الشهوانية البهيمية، وأغراضهم الدنيوية، وتصوراتهم الخاطئة الوبية، ولهذا تجدهم يحامون عليها، ويجعلون النصوص تابعةً لها، منقادة إليها مهما أمكنهم، فيُحرفون لذلك الكلم عن مواضعه، وحينئذٍ معنى تغير الفتوى بتغير الأحوال والأزمان مراد العلماء منه: ما كان مُستصْحَبة فيه الأصول الشرعية، والعلل المرعية، والمصالح التي جنسها مراد لله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ'.
والشيخ رحمه الله يرد على من أثاروا في هذه الأيام مسألة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان -وإن كان لما قالوا نصيب من الحق- إلا أن الدين في نظر هؤلاء يتجدد ويتقلب بحسب هذه الإرادات الشهوانية، والأغراض البهيمية كما يشاءون.
ولذلك ينبغي أن يُعلم أن الأحكام الشرعية ثابتة، وأنها مبنية على العلل الثابتة التي لا يُمكن أن تتغير، فالناس هم الذين يتغيرون، ويجب أن نرد تغيرهم إلى الحق الذي تغيروا عنه، فكل الأحكام جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى محققة للمصالح ونافية للمفاسد، والخير والشر، والمصالح والمفاسد كلها ثابتة لا تتغير.
أما مسألة الضروريات أو ما يباح في وقت الضرورة فهذا شيء آخر، فهناك أمور تدخلها الضرورة، وهناك أمور لا تدخلها الضرورة كما بين ابن القيم رحمه الله.
فمثلاً: كون الميتة تُباح أو يُباح شرب الخمر للمضطر {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:١٧٣] وما أشبه ذلك، فهذا يدخل في بعض الأحكام.
أما مسألة الإيمان والكفر والموالاة والمعاداة بالقلب فلا اضطرار في ذلك أبداً، وإنما نص الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعفا عن أمر واحد فقط في حال الاضطرار وهو: أن يقول الإنسان بلسانه كلمة الكفر، كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَان} [النحل:١٠٦] فالقلب لا ضرورة فيه، ولا يستطيع أحد كائناً من كان أن يبحث أو يفتش عن قلبك، وأن يعلم ما في داخلك، أما اللسان فيسمعونه، فلهذا إذا اضطر الإنسان في حالة التعذيب الشديد -كما وقع لبعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في أول الإسلام- أن يقول كلمة الكفر بلسانه، ولكنه في قلبه يعتقد الحق ويؤمن به ولا يتزحزح عنه.
فتغير الفتوى -حنيئذٍ- حق، ولكن لا تتغير الأحكام، ولا تتغير النصوص، ولا تتغير مقاصد الشارع، والحِكَم التي جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مناطاً للأحكام، ولذلك إذا تغيَّر الحكم -كما في حالة الضرورة- فإننا نجد أن العلة وأن المناط الشرعي مقصود هناك.
فمثلاً: لمَّا حرَّم الله تبارك وتعالى الميتة كان ذلك لحكمة ومصلحة مقصودة من ذلك، فإذا أباحها للمضطر لم يتغير الحكم ولم تتغير المصالح، بل هي موجودة وهي حفظ النفس، إذا وصل الحال بالإنسان إما أن يموت وإما أن يأكل من الميتة، وفي هذا الموضع المصلحة أعظم وأظهر لما فيها من الضرر في دينه وفي دنياه، فهنا نقدم مصلحة على مصلحة.
إذاً: فالمصالح باقية، والحِكَمُ باقية، والنصوص باقية، والأحكام باقية، وإنما تتغير بحسب الأحوال، أما إذا خضع الأمر لأهواء الناس أو لآرائهم أو لشهواتهم، أو كما يسمونه هم [لنمو المجتمع] ومسايرةً للمجتمعات الحديثة والمجتمعات الملحدة الكافرة، فإن ذلك خروج عن هذه الحكم والمصالح جميعاً، ولذلك فلا حجة فيه.
فهم يقولون نحن ننشر الفساد ونبثه بين الناس؛ فإذا ما انتشر فإنهم سوف يقبلون بالواقع ويفتون بالجواز ولو بعد عشرين سنة، فالمناط في نظر هؤلاء هو رغبة الناس وأهوائهم، بينما نحن نقول: المسألة مرتبطة بأصول وبأحكام شرعية قطعية ثابتة لا تتغير كما ذكر الشيخ رحمه الله.
فيقول: 'ليس معنى ما ذكره العلماء من تغير الفتوى بتغير الأحوال ما ظنه من قل نصيبهم أو عُدِمَ مِنْ معرفة مدارك الأحكام وعللها، حيث ظنوا أن معنى ذلك بحسب ما يلائم إراداتهم الشهوانية البهيمية، وأغراضهم الدنيوية، وتصوراتهم الخاطئة الوبية، ولهذا تجدهم يحامون عليها، ويجعلون النصوص تابعة لها، منقادة إليها، مهما أمكنهم، فيُحرفون لذلك الكلم عن مواضعه'.
وما أكثر ما يقع من تحريف الكلم عن مواضعه والاستدلال بالآيات في غير مواضعها.
يقول: 'وحينئذ معنى تغير الفتوى بتغير الأحوال والأزمان مراد العلماء منه: ما كان مستصحبة فيه الأصول الشرعية، والعلل المرعية، والمصالح التي جنسها مراد لله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ'.
وذلك كما لو كثر في الناس شرب الخمر، أكثر من ذي قبل، فقيل: إنه ما دام ذلك قد وقع فلنجعل عقوبة السائق إذا خالف أو عمل حادثاً وهو سكران ضعف ما إذا كان غير سكران في العقوبة المعروفة العادية في النظام أو الحق، ليكون زجراً له عن ذلك، فالمصلحة هنا أن ينزجر الناس عما حرم الله.
وهكذا فإن كل ما نراه يخل بهذه المصلحة فإنه يجوز لنا أن نجتهد وأن نحدث ما يمنع ويردع الإخلال بهذه المصلحة من أحكام أو من عقوبات ما دام في ضمن التعزيز الشرعي والضوابط الشرعية.
قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه- 'يُجدُّ للناس من الأقضية مثل ما يُجدُّون من القضايا'.
فكلما استجد الناس قضية نجد لهم أيضاً نحن من الأقضية، فنقضي على تلك، وهكذا فما دامت المصلحة والحكمة مراعاة فإن تغيير الفتوى جائز، بل قد يكون ضرورياً، وفي ذلك حكمة عظيمة من حكم التشريع، وهو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد جعل هذا الكتاب محكماً، وجعل أحكامه محكمة، ومع ذلك فإنها تتلائم فعلاً مع الأحوال، وتتحقق المصلحة في أي حال كانت، وفي أي ظرف كان، وفي أي زمان وفي أي مكان، ولهذا قال بعض العلماء: حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله، وليس معنى هذا أن يتلاعب بالدين باسم المصلحة، فما نص الشرع على تحريمه فهو مفسدة لا مصلحة فيه بحال، لكن المراد بهذا ما كان من الأمور المتغيرة المتجددة الحادثة واجتهد من له الحق في الاجتهاد أن في ذلك مصلحة فثم شرع الله.
يقول الشيخ: 'ومن المعلوم أن أرباب القوانين الوضعية عن ذلك بمعزل، وأنهم لا يقولون إلا على ما يلائم مراداتهم كائنة ما كانت، والواقع أصدق شاهد'.
أهل القوانين الوضعية لا ينظرون إلى مسألة المصالح الشرعية والعلل المرعية، وإنما ينظرون إلى أهوائهم وشهواتهم.
وبهذا ينتهي الحديث عن النوع الثاني من أنواع الكفر الاعتقادي.