لكن ما الذي جرى؟! يقول الله تبارك وتعالى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}[فصلت:٥٣]، أخذوا هذه المادة (قطعة حديد) فآمنوا بها؟ لأن (الحديد) موجود ومحسوس، فآمنوا بالحديد، وصنعوا منه ما صنعوا، واخترعوا ما اخترعوا، وفعلوا ما فعلوا.
ثم بعد ذلك يأتي السؤال المحير الذي لا بد منه، ولا بد أن يطرأ على أذهان البشر، وهو: ما هو هذا الحديد؟ وعندما أرادوا معرفة حقائق الأشياء وكنهها، ووضعوا الحديد تحت المجاهر الكبيرة؛ لم يستطيعوا أن يؤمنوا بعد ذلك بشيء واحتاروا! فقيل لهم لماذا تحتارون؟ ألم تكونوا تقولون: نكفر بالغيب ونؤمن بالمادة المحسوسة والمشاهدة؟ قالوا: لا، ليست هذه هي القضية؛ إنه عندما اكتُشِفَتْ الذرة، واكتشفت المجاهر الكبيرة جداً؛ أصبحنا لا نرى حديدة، بل أصبحنا نرى فراغات هائلة تشبه الفراغات التي بين أفراد المجموعة الشمسية: الأرض، والكواكب الأخرى حول الشمس، هذه هي المادة وهذه هي الحديدة؛ فإذاً ما هي المادة؟ قالوا: لا نستطيع أن نقول لكم شيئاً.
فيقال لهم: كنتم تطالبوننا أن نكفر بالإنجيل، ونؤمن بالمادة فما هي المادة؟ قالوا: لا نستطيع معرفة ذلك.
فاختلفوا في ذلك إلى الآن، وكلما تقدموا في العلم فإنهم يجهلون ما هي المادة؟ ما هي حقيقتها؟! وعندما يقال لهم: أنتم إذاً تؤمنون بالغيب؟ يقولون: نحن لا نؤمن بالغيب كيف ذلك؟ لأن الغيب عندهم هو تلك الخرافات التي لا يريدون أن يؤمنوا بها، سواء عرفوا هذه الحديدة أم لم يعرفوها.
لكن هذا الغيب الجديد، وإن صح التعبير (الغيب العلمي) كما يسمونه أحياناً، فهم يؤمنون به ولم يروه، ويقولون لا نستطيع أن نراه، إنما هو أمر غيبي.
فالكهرباء -مثلاً- قالوا: إنها من عالم الغيب، فإذا قيل لهم: أنتم هل تؤمنون بالغيب؟ قالوا: لا نؤمن بالغيب، لكننا في الحقيقة لا ندري ما هي الكهرباء؟ إننا ندرك آثارها ونستخدمها في كل بيت وفي كل شأن تقريباً؛ لكننا لا ندري ما حقيقتها!! وقس على ذلك كثيراً من الأمور كالجاذبية، فما هي الجاذبية؟ لا يدرون! مع أنهم يعرفون قانون الجاذبية؛ ولكن ما هي الجاذبية على الحقيقة؟ يقولون: لا ندري.
إذاً: ماذا استفاد الإنسان!! فقد صعد إلى السماء فتاه في هذا الفضاء بين الأجرام، حتى إنه لم يعد يدري عن شيء، ودخل إلى أعماق الذرة الصغيرة فتاه في أعماقها، وقال: إن الفراغات التي توجد بين الهواء وبين ما يدور حولها تشبه الفراغات التي بين الكواكب.
إذاً فأين يعيش الإنسان؟ وكأن حصيلة هذا الجهد الإنساني، وحصيلة هذا العلم لاشيء! وهذه هي الحقيقة أيها الإخوة، فالإنسان بغير الإيمان بالله عز وجل وبغير الإيمان بالغيب صفرٌ فارغٌ لا حقيقة له، ولا يستطيع أن يؤمن بأي شيء، فلم يعد هناك في الغرب -بين العلماء الغربيين- اتفاق على شيء، إلا على شيء واحد، إن اتفقوا عليه وهو: أنه لا يصح لك أن تصدر أحكاماً مطلقة، سواء كنت عالم فيزياء أم كيمياء أم أحياء أم في علم الاجتماع أم في علم النفس، فلا تصدر أحكاماً مطلقة وتقول الحق كذا، إذاً فمعنى ذلك: أن الإنسان لم يعلم شيئاً أبداً، فجهد وتعلم، وإذا به يجد أنه لا يرى ذلك الذي تعلمه على الأرض.