للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من أسس منهج الدعوة إلى الله]

ومن لوازم ذلك ومما يبين ويدل على أن الدعوة إنما هي إلى الله: أولاً: أن تكون الموالاة والمعاداة في الله؛ فإذا إذا أحببت رجلاً؛ فلأنه أطاع الله، وعبد الله من أي بلد كان أو من أي لون كان أو على يد أي إنسان اهتدى؛ فإذا فعلت ذلك فأنت تدعو إلى الله بإذن الله.

وأما إذا كنت تواليه لنفسك، أو تعاديه لنفسك، أو تحب أن تكون هدايته على يدك من أجل نفسك ومن أجل طائفتك، ومن أجل منهجك الذي ارتضيته أنت في الدعوة إلى الله، أو ما أشبه ذلك، مما يصرف الدعوة عن أن تكون إلى الله؛ فهذه الدعوة ليست لله.

وعلامة ذلك: أن من يدعو إلى الله يذكر بالله، ويذكر بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا ما تأتلف عليه القلوب وتجتمع عليه الأمة جميعاً، وأما من يدعو إلى غير الله؛ فإنه إنما يذكر بالرأي أو الإمام أو الشيخ أو المنهج الذي يرتضيه! فلهذا تجده دائماً يدعو إلى ذلك الشيء، ويثني عليه ويدندن حوله, ويتكلم به.

فهذه علامة، وكل إنسان منا عليه أن يقيس قلبه وينظر إليه؛ فإن أول ما يجب لتصحيح مسار الدعوة إلى الله في العصر الحاضر، أن نتجرد جميعاً من كل غرض، وهوى، وهدف؛ إلى أن تكون دعوتنا إلى الله وحده لا شريك له.

فالمحبة والموالاة والمعاداة لا تكون إلا في ذات الله ومن أجل الله.

ثانياً ومن لوازم ذلك ونتائجه ألا يحرص الداعية على كثرة الأتباع.

نحن نريد الهداية للناس جميعاً كما كان الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- فكانوا يدعونهم إلى الحق الجلي الصحيح؛ فيقبله من يقبله، ويأباه من يأباه؛ وبهذا كانوا دعاةً إلى الله وحده.

يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث الصحيح: {ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، ورأيت النبي ومعه الرهط أو الرهيط، ورأيت النبي وليس معه أحد} سبحان الله! أنبياء وليس معهم أحد! فهل الأنبياء لا يعرفون أسلوب الدعوة؟ لا.

والعياذ بالله، بل هم أعلم الناس بأسلوب الدعوة إلى الله؛ ولكنهم دعوا إلى التوحيد؛ فرفضته القلوب الغافلة، ورفضته الأهواء؛ كما قال سبحانه عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:٢٢]، وقال عنهم: {أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:٣٦].

فالأنبياء لم يساوموا قومهم ولم يداهنوهم ولم يتنازلوا لهم عن شيء؛ بل أعلنوها دعوة واضحة صريحة، كما أمر الله وكما يجب أن تكون.

فَمَْن منَّ الله عليه بالإيمان كما أخبرنا الله عن بعض أتباع أنبيائه؛ فهؤلاء آمنوا ودخلوا في دين الله (في التوحيد)؛ فكانوا مؤمنين حقاً، ومنهم من أعرض فلا يبالي بهم الله وإن كثروا، ومن لم يتبعه أحد فلا شيء عليه ولا حرج عليه؛ المهم أن يلقى ربه يوم القيامة وقد بلغ رسالته وهذا هو ما قاله الله لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:٤٨] أي: فإذا بلغت الحق كاملاً، وجاهدت في الله حق جهاده بالحكمة وبالموعظة الحسنة وبالمجادلة -على التفصيل الذي سيأتي إن شاء الله في آية سورة النحل- ولم يستجب لك أحد؛ فلا شيء عليك ولا حرج عليك، المهم ألا تتنازل وألا تتبع الأهواء من أجل أن يكثر الأتباع، وأن يتجمع الرعاع؛ فهذا ليس من منهج الدعوة إلى الله، ولا مما سلكه أنبياء الله.

فإن رغبات الناس وشهواتهم وميولهم لا تتناهى ولا تحد.

فبعض الناس -مثلاً- يقول: ادع إلى الله ونحن معك؛ لكن لا تتعرض لموضوع النساء والتبرج فهذا شيء لا نستطيع أن نلتزمه (نحن نتبعك ونصلي ونتعلم الخير ونتبرع ونبني المساجد، وفي كل شيء؛ لكن موضوع المرأة وألا نرى النساء ولا نجلس معهن؛ فهذا شيءٌ خاص؛ فنرجوك ألا تقترب من هذا الموضوع).

والآخر يريد أن تدعو إلى الله وتتكلم عن الحجاب، وتنهى عن السفور والتبرج، وتحث على كل شيء؛ لكن لا تتعرض للربا؛ لأن الرجل صاحب بنك، فقل ما شئت إلا هذا الشيء.

فإذا اتبعنا أهواء الناس ليكثر الأتباع ويتجمع الرعاع؛ فقد تركنا ما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ وللأسلوب تفاصيل ستأتي ولكن الأصل أن ندعو إلى دين الله كاملاً غير منقوص، وألا نبالي بنتيجة الدعوة، وألا نبالي بمن اتبع أو من لم يتبع.

أما في الأسلوب فهذه وسيلة سيأتي الحديث عنها إن شاء الله تبارك وتعالى.

وتحقيقاً لكون دعوة الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- إلى الله، تجدون أنهم يصرحون لأقوامهم بذلك؛ فهذا نوح -عليه السلام- يقول لقومه: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [هود:٢٩]، ويقول هود عليه السلام: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} [هود:٥١] ويقول الله للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [سبأ:٤٧] وهكذا الأنبياء دائماً لا يبتغون مالاً، ولا أجراً، ولا يراعون مدحاً ولا ذماً؛ وإنما يريدون وجهه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يطاع الله ويتبع أمره.

وعلى هذا المنهج سار الدعاة إلى الله بحق، فنشر الله دينه ونصره بأمثالهم ابتداءً من الصحابة الكرام، وانتهاءً بمن جدد الله به الدين من أئمة الدعوة المستقيمين؛ فليس هنالك غرض من أغراض الدنيا الفانية.

أما بعض الدعاة -مع الأسف- لو عرض عليه منصب لترك الدعوة إلى الله، ولو عرض عليه مرتب ضخم لترك الدعوة إلى الله، ولو عرضت عليه قضية من قضايا الدنيا التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة؛ لسال لعابه وترك الدعوة إلى الله.

فهذا لا يدعو إلى الله ولو كان يدعو إلى الله؛ لما رضي بدلاً عن دعوته بشيء من ذلك، وإنما هي دعوة إلى ما تحقق له، وهذا هو الذي قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه وفي أمثاله: {فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه}.

وأول من يؤتى يوم القيامة -كما ثبت في الحديث الصحيح- بثلاثة: (القارئ المرائي- والمجاهد المرائي- والمنفق المرائي)، فيقال لكلٍ منهم: لم تعلمت؟ لم جاهدت؟ لم أنفقت؟ فيقول: من أجلك يا رب، فيقال له: كذبت؛ إنما فعلت ليقال: تعلمت، أو دعوت، أو قرأت، وليقال: داعية أو عالم؛ فلا يقبل منه ذلك، وكذلك المجاهد، وكذلك المنفق.

فتحقيق الإخلاص: أن تكون الدعوة إلى الله، هو أعظم أمر يجب أن نعرفه جميعاً، فندعو إلى الله، لا إلى رأي ولا منهج ولا فكرة ولا طائفة ولا فرقة ولا مذهب ولا شيخ ولا إمام ولا أي مخلوق كائناً من كان، فالله لم يرض لنا أن ننتسب إلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ننتسب إلى غيره، فقال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج:٧٨] فلو قال أحد: نحن محمديون، قلنا: لا! نحن مسلمون.

فلا ننتسب حتى إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما ننتسب كما علمنا ربنا بقوله: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:٧٩] فنحن نسبتنا واسمنا وانتماؤنا إنما هي إلى الإسلام كما أنزله الله، وكما أمر الله؛ وهذا مما يحقق أن تكون الدعوة إلى الله.

نعود إلى الآية فنقول: الوجه الأول: (أي: بالوقف) في قراءة الآية: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:١٠٨] فيكون المعنى: أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو إلى الله، وأنه على بصيرة هو ومن اتبعه.

والوجه الثاني من قراءة الآية: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:١٠٨] (بالوصل) فيكون المعنى: أن دعوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بصيرة هو ومن تبعه، وكلا المعنيين صحيح.