[القاعدة الرابعة: عدم الإنكار في مسائل الخلاف]
ثم نتكلم على مسألة وهي: أن من ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عدم الإنكار في مسائل الخلاف، وهذا الأمر مهم في ذاته لأنه كثيراً ما يفهم خطأً، ونقصد بذلك أن الأمر الاجتهادي المحض لا ينكر فيه.
وبعض الناس يقول: لا إنكار في مسائل الخلاف، فإذا جئت إلى إنسان لا يرفع يديه في الصلاة -مثلاً- إذا كبر لتكبيرة الإحرام، أو الركوع أو بعد الرفع منه، أو لا يقول: آمين، أو لا يجهر بها، أو ما أشبه ذلك، فإنك تجد من يقول: لا تنكر عليه لأن المسألة خلافيه.
وإذا جئت إلى إنسان يترك زوجته تخرج أمام الرجال كاشفة الوجه، ولو سترت كل شيء لكن بقي الوجه- والكفان- ثم يقولون لك: المسألة خلافية فلا تنكر عليه.
فنقول: ليس الأمر كذلك.
فالمسائل الخلافية التي لا إنكار فيها هي مسائل الاجتهاد المحضة التي يجتهد فيها العلماء فتختلف وجهات نظرهم، والجميع ينطلقون من الكتاب والسنة، وينتهجون منهج الكتاب والسنة، أما العالم أو المذهب الذي يخالف نصاً من النصوص عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو في كتاب الله، فإنه ينكر عليه، ولو قد قال بذلك بعض الأئمة، فهذا لا يمنع من الإنكار، وإلا لاتبع الناس الأئمة في أخطائهم وأصبحت معروفاً، وتركنا سنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجل أن فلاناً اجتهد فاخطأ، وهذه مصيبة: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:٦٣] والفتنة الشرك، فلا بد أن نفهم ما هي مسائل الخلاف.
مثلاً: إذا أحرم الحاج مفرداً أو متمتعاً أو قارناً، فنقول: هذا لا إنكار فيه، ولو كنت ممن يرى أن التمتع هو الأفضل، فيحسن بك أن تقول ذلك، وأن تبينه له وترشده إليه إرشاداً، لكن أن تنكر عليه، وأن تقول: لا إحرام لك، فلا تفعل ذلك لأن هذه -فعلاً- من مسائل الخلاف.
لكن مسألة أن المرأة تسفر عن وجهها، فهذه المسألة لا تعتبر من مسائل الخلاف، وأخطأ من خالف فيها، فقد خالف كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والعالم له أجر اجتهاده، لكن نحن نأثم لو أننا سكتنا وقلنا: الأمر فيه خلاف.
وكذلك صلاة الجماعة فلا نقول: بعض العلماء لا يرى أنها واجبه، فلا ننكر ونجعلها من مسائل الخلاف؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هدد تاركي الجماعة بأن يحرق عليهم بيوتهم، ولولا ما فيها من النساء وما فيها من الأطفال لحرق عليهم بيوتهم، بل يجب الإنكار على من خالف سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكذلك بعض المنكرات الظاهرة كحلق اللحية، بغض النظر عن أن هذه الأمور تنكر بالحكمة والأسلوب الحسن، لكن لا نسكت ونقول: الأمر ليس فيه شيء لأن فيه خلاف، فليس كل خلاف معتبر، وسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صريحة وقاطعة في تحريم حلق اللحية، ولم يثبت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الإطلاق أنه أخذ منها شيئاً فضلاً عن حلقها وقد أمرنا بذلك، فإذاً لا نقول: هذه مسائلُ خلافٍ، بل هذه مما يجب أن ننكر فيها، وألا نرضاه ولا نقره؛ فهذه أيضاً من القواعد والضوابط التي ينبغي أن تعلم.
أما مسائل الخلاف في المعاملات- في البيع والشراء وما يتعلق به- هل هي أمور تلحق بالمباح أو تلحق بالحرام، أو تلحق بالربا مثلاً.
وذلك مثل بعض الأشياء التي ليس فيها نص، وإنما اجتهد العلماء فيها هل يلحقونها بالحلال أو بالحرام، فاشتبه فيها الأمر، فنقول: نعم، هذه لا إنكار فيها، فلا نعاملها كالمنكر الصريح، ولكن موقفنا هو أن نرشد وننبه الأخ الذي يفعلها إلى ما نراه نحن هو الصواب، لأن الدين النصيحة، ولا يؤمن أحدنا حتى يحب لأخيه مثل ما يحب لنفسه، فإذا كنت أنا أرى أن هذا هو الراجح، ولا أوافق من خالفني في ذلك من العلماء، فأنصح لأخي وأبين له على سبيل النصح والبيان والإرشاد، لا على سبيل الإنكار كما في الأمر الظاهر المخالف لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأعود لأقول: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو ضعيف في مجتمعنا، وضعيف حتى في أنفسنا، وفي بيوتنا إلا من رحم الله تبارك وتعالى، وإنه لأمر عظيم، وإن له قواعده وضوابطه التي يجب علينا أن نعرفها وأن نتواصى بها، وأن نحث أنفسنا على تطبيقها بإذن الله تبارك وتعالى، وأنه مهما كان قلة العدد، وضعف الإمكانيات، إذا تمسكنا بسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة، وفي الأمر والتغيير، فإننا بإذن الله تبارك وتعالى سوف نحقق ما نريد، بل ما يرضي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لأن غرضنا إنما هو إرضاء الله.
نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يكتب لنا ولكم رضاه وتوفيقه ونصره، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.