إذا عدنا إلى بداية الكلام وتطرقنا إلى معنى كلمة الحكمة التي آتاها الله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الآيات السابقة لعرفنا أن السلف فسرها بالسنة -وهي حق- والسنة كلها حكمة، ولكن أيضاً نلحظ أو نلمح معنى آخر لا يتعارض مع ذلك، وهي أن ما يسميه الغرب فلسفة ومنه اشتقت كل النظريات التربوية، والاجتماعية، والنفسية، يسميها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حكمة، لأن الله تبارك وتعالى في سورة الإسراء ابتدأ آيات عظيمة بقوله:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}[الإسراء:٢٣]، ثم استمرت الآيات تتحدث -بعد الكلام عن الوالدين- عن الإحسان إلى الأقربين، وعن ترك التبذير، وعن الاقتصاد في النفقة، وعدم قتل الأولاد، وعن ترك الزنى، والقتل، والتحذير من هذه الجرائم البشعة، وعدم أكل مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، وعن الوفاء بالكيل والميزان والعهود، ونهى الإنسان عن أن يقول ما لا يعلم، ونهاه عن الكبر ثم قال بعد ذلك كله:((ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ)) ثم عقَّب بقوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً}[الإسراء:٣٩] فأول شيء بدأت به الحكمة هو التوحيد بقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}[الإسراء:٢٣].
وآخر وصية ختمت بها الحكمة التوحيد في قوله تعالى:{وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ}[الإسراء:٣٩] فالتوحيد أساس كل حكمة، وأساس الحكمة العملية الحقيقية هي هذه الوصايا، هي ترك ما حرم الله من: الزنى، والقتل، والإسراف، والتبذير، والإفساد، واقتفاء ما ليس للإنسان به علم، والاستقامة على أمر الله ودينه، ثم القيام بالإحسان إلى الوالدين وإلى الأقربين، والاقتصاد في النفقة، هذه هي الحكمة القرآنية، والحكمة الحقيقية، وهذه هي التي بعث الله بها محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومرجعها في أول الأمر وفي آخره إلى التوحيد، إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى عبادة الله وحده لا شريك له، فلنكن -إن شاء الله- جميعاً موحدين مؤمنين، في أي علمٍ ومجال وميدان، أياً كانت المسميات: اقتصاداً أو سياسة أو اجتماعاً، أو أموراً عسكرية، أو داخلية، أو علاقات أسرية، أو اجتماعية- أياً كانت يجب أن نكون موحدين مستمدين كل المعايير والقيم والأحكام من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه هي حقيقة التوحيد.
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلني وإياكم من المؤمنين الموحدين، وأن يمنَّ علينا بفضله وجوده وكرمه، إنه سميعٌ مجيب.