للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ثمرات الإخلاص في التوبة]

وأما بالنسبة للتوبة -ويدخل في ذلك أيضاً التوسل بالأعمال الصالحة- فإن الإخلاص هو من أعظم ما يحقق ذلك بإذن الله تبارك وتعالى.

والأمثلة على هذا كثيرة جداً، ومن أشهرها وأعظمها حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، ثم ذهب وأراد أن يتوب، فسأل عن عالمٍ يعلمه التوبة، فدل على راهب لا فقه لديه، فقال له: لا أجد لك توبة فأكمل به المائة.

فهذا الرجل لديه شدة وعنف وقوة غضبية عارمة، فأغضبه ذلك بأن قال: لا أجد لك توبة.

والله تبارك وتعالى يفتح باب التوبة لمن يشاء من عباده، فكيف تغلقها أنت؟! فأكمل به المائة، إذ لا فرق بين أن يكون العبد قتل واحداً أو قتل ألفاً أو ألف ألف إذا لم يكن له توبة، فلا فرق بين هذا وهذا، فأكمل به المائة.

ثم ذهب فدُلَّ على عالمٍ ممن فقهه الله تعالى في الدين، فسأله؛ فقال: ومن يمنعك من هذا؟ ثم دله -وهكذا المربون الحكماء يعلمون ما للبيئة من أثر- لما رأى إخلاصه وصدقه في التوبة، أراد أن يتحقق له ذلك كاملاً، فقال: اخرج من هذه القرية، ودله على قريةٍ فيها قوم يعبدون الله تبارك وتعالى، بيئة صالحة يستطيع أن يتوب فيها، ولا يعود إلى ما كان فيه من الذنوب، فأدركه الموت في الطريق.

فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأما ملائكة العذاب فتقول: الرجل قتل مائة نفس وإلى الآن لم يعمل شيئاً، إلا مجرد أنه توجه إلى القرية، لكنه لم يتعبد، ولم يتصدق أو يصم أو يُكَفِّر أو يعمل شيئاً.

وأما ملائكة الرحمة فإنها تقول: إنه قد تاب، فحجتها أنه قد تاب، وأنه قد انسلخ من ذلك الماضي، وأنه قد أقبل على الله تبارك وتعالى تائباً صادقاً مخلصاً.

فحكم الله تبارك وتعالى وهو أحكم الحاكمين وقضى وفصل بأن الذين يستقبلونه والذين يتلقونه هم ملائكة الرحمة، وهذا من فضل الله وجوده عز وجل، وما أعظم فضله؛ لأنه هو الغفور الودود، الرحمن، الرحيم، التواب الكريم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فقبل ذلك منه.

فكان هذا الإخلاص الذي في قلبه كافياً، عن أي عمل يمكن أن يفترضه، أو يشترطه عابد أو واعظ أو مربٍ أو ناصح، كما حدث لملائكة الرحمة، أو كما حدث لملائكة العذاب؛ لأن التائب لا بد أن يشترط له تغيير في حياته، فلا بد من أعمال تثبت ذلك، والله تبارك وتعالى طلب ذلك، واشترط ذلك كما بينا مثلاً في آية: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النساء:١٤٦] أي: لا بد من أعمال معينة حتى نعلم أنه قد تاب، لكن الله تبارك وتعالى بعمله هذا القلبي وبإخلاصه وبصدقه عفا عنه ورحمه، وعد ذلك كأنه قد عمل كل ما يشترط من عملٍ للتوبة.

إذاً: هذا يدل على فضل الإخلاص والصدق مع الله تبارك وتعالى.

والمثال الثاني الذي يمكن أن نجعله ثانياً -والأمثلة كثيرة جداً- هو: مثال المرأة البغي التي كانت من بني إسرائيل -والحديث أيضاً صحيح - فمرت فرأت كلباً يلهث ويأكل الثرى من العطش، وهو لا يستطيع أن يشرب، وليس لدى الحيوان الأعجم حيلة، ولكن كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {في كل ذات كبدٍ رطبةٍ أجر}، فلما رأت حاله رَثَتْ له، فجاءت إلى بئر وأخذت موقها، أي: جوربها أو خفها، فملأته بالماء، ثم صعدت به، فسقته فشكر الله لها، فغفر لها.

عمل عادي جداً لو رأيناه، وكثير من الناس لو رأوا مثل هذا الكلب لا يرحمونه، وإن رحموه فربما لا يعدون هذا العمل شيئاً، بل ربما أن هذه المرأة قد لقيت الله تبارك وتعالى وهي لا تعلم أن لها عنده عملاً عظيماً شكره الله لها وغفر لها من أجله، وربما لو قيل لها: احتسبي عند الله عملاً من الأعمال -كما في حق الثلاثة أصحاب الغار الذين سنذكر قصتهم إن شاء الله- لمَّا ذكرت هذا العمل؛ لأنها قد لا تراه شيئاً، ولكن حقيقة الإخلاص الذي في هذا العمل، بفضل الله تبارك وتعالى شكر الله لها ذلك فغفر لها؛ ولو تأملنا القصة نجد أنها أبعد شيء عن الرياء، لأسباب: أولاً: أن الكلب لا يحدث الناس بما صنعت له، ولو كان من بني آدم لقيل: إنها سقته لكي يخبر الناس، ويقول: فلان أعطاني، لكن هذا حيوان أعجم، فهذا دليل على أنها ما فعلت ذلك وهي تريد شهرة ولا ذكراً ولا رياءً.

ثانياً: أنه إنما كان في خلاءٍ وهي عابرة ولم يرها أحد، ولم يذكر أن أحداً رآها لكي يذكرها.

ثالثاً: أن دليل إخلاصها هو هذا التواضع له وهو حيوان، ولا شك أن النزول إلى البئر يعرض الإنسان للخطر، إذ قد يقع فيها فلا يخرجه أحد.

رابعاً: أنها وضعت موقها في فمها عندما أرادت أن تصعد من البئر، وذلك حين لم تستطع أن تحمل الماء في يد وتصعد باليد الأخرى -وهذا مجرب لمن يصعد في جدار أو نحو ذلك- فجعلت موقها الذي محله الأساس هو القدم -موضع الاتساخ- في الفم، وهذ لا يفعله أحد إلا في أشد ما يكون من حالات التواضع والإخلاص، فلما صعدت سقت له ومضت، ولم تطلب منه أجراً ولا ثناءً، فهذا من فضل الله تبارك وتعالى عليها، لما أخلصت لله تعالى في ذلك، وكان حالها بخلاف المرأة الأخرى من بني قومها، التي حدَّث عنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبة الكسوف، وهي التي دخلت النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، أي: من هوامها.

فالإخلاص يرفع الله تبارك وتعالى به العبد درجات، ويغفر بسببه الذنوب، والإهمال والتقصير والتفريط الذي قد لا يتفطن إليه، قد يكون سبباً في دخول النار -نسأل الله العفو والعافية- فهذه نجت بسقي كلب، أما تلك فهلكت بحبس هرة، فليتنبه العبد وليعلم أن الطريق مهلكة، وأنه لا بد من الاستقامة على الصراط المستقيم الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف، وليحذر ذنوبه، وليتفقد أحواله وتقصيره في حق الله تبارك وتعالى.

المثال الثالث: وهو مثال واضح للجميع في أثر الإخلاص وما يحمد من عاقبته؛ وهو مثال الثلاثة الذين هطل عليهم المطر، فألجأهم إلى غارٍ، فأرسل الله تبارك وتعالى عليهم صخرة فسدَّت فم الغار، فلم يجدوا ملجأً من الله إلا إليه، أين يذهبون؟ ومن ينادون ويخاطبون؟ ولم يجمعهم في الغار شيء إلا اللجوء والهرب من المطر.

فرأوا أنهم في حالة لا ينجيهم منها إلا أن يتضرعوا إلى الله تبارك وتعالى، وأن يتوسلوا إليه بأرجى عملٍ صالحٍ عملوه، فتوسلوا إليه بالإخلاص، لا بكثرة العمل، ولا بكبره -مثلاً- إنما بالإخلاص لله تبارك وتعالى فيه.

فإن صاحب الوالدين قال بعد أن ذكر ماذا يفعل بوالديه: {اللهم إن كنت فعلت ذلك خالصاً لوجهك الكريم فافرج عنا ما نحن فيه، فرفعت} كشفت الصخرة قليلاً، إلا أنهم لا يستطيعون الخروج.

وقال الذي حجزه الله تبارك وتعالى ومنعه من الزنا بعد أن كاد أن يقع فيه وحصل له ما يطلب، حيثما تكون الشهوة أشد، والتمكن من قضائها أشد ما يكون، حجز الله تبارك وتعالى وهذا الشاب، ورزقه الإخلاص، فترك ذلك خالصاً لوجه الله الكريم، لما قالت له: اتق الله، تذكَّر الله فاتقاه فقام، فقال: {اللهم إن كنت فعلت ذلك خالصاً لوجهك الكريم أو ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فرفعت قليلاً}.

وجاء الثالث صاحب الأجير، الذين كثيراً ما تهدر حقوقهم في هذا الزمان وفي كل زمان، وكثير من الناس لا يبالي بهم ولا بظلمهم، ولا يحتسب الإحسان إليهم عند الله، وإذا كان في كل ذات كبد رطبة أجر ولو كانت كلباً؛ فإن الأجر في حق هؤلاء العمال أو المستأجرين أعظم، ولا يجوز لأحد أن يظلمهم.

هذا الرجل، قلَّ أن يوجد مثله في هذا الزمان، فإن الأجير لما جاءه يطلب أجرته قال: {أترى ما في هذا الوادي من الإبل والغنم والبقر؟ هذا مالك، فقال: أتهزأ بي} أتسخر مني؟ لأن دينه لا يبلغ هذا، ولكن الرجل تطوعاً منه نماه منه، فأعطاه إياه؛ فلما تضرع إلى الله تبارك وتعالى بأنه إن كان فعل ذلك ابتغاء وجهه، أي: أخلص فيه لله عز وجل أن يفرج عنهم فاستجاب الله له، وفرج ما بهم من كرب، وخرجوا يمشون.