يقول:(انظر إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه، رمى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها، وجر بلحية نبي مثله) وهو هارون، أخذ بلحية أخيه ولهذا قال:{لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي}[طه:٩٤]{إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي}[الأعراف:١٥٠]، (ولطم عين ملك الموت ففقأها) والحديث في الصحيح، لطم عين ملك الموت وقد جاءه بالحق، والله سبحان وتعالى إنما يبعثه ويرسله بالحق، ولا مناص ولا فكاك لأحد من الموت، ولكن نبي الله تبارك وتعالى موسى يلطمه، يقول:(وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمد صلى الله عليه وسلم ورفعه عليه).
كيف لو بدرت هذه الأعمال من أحد؟! لو أن أحداً ألقى كلام الله، والله سبحانه وتعالى إنما أوحى إلى موسى أنه سيكرمه ويصطفيه:{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا}[الأعراف:١٥٥] وذهب صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى حيث أراد الله سبحانه وتعالى، وصعد إلى الجبل، وكلمه الله تبارك وتعالى، وأوحى إليه الكتاب الذي هو التوراة، التي جعلها الله سبحانه وتعالى فاصلاً ومعلماً عظيماً بين عهدين كبيرين من عهود التاريخ الإنساني.
هذان العهدان كما قال بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم هما: العهد الأول: عهد إهلاك الأمم، وقد أهلكت الأمم، ولم يكن لله تبارك وتعالى كتاب باقٍ محفوظ، فقد أنزلت الصحف على إبراهيم عليه السلام ولكنها لم تبق -كما تعلمون- وأما ما أنزله الله تبارك وتعالى على داود، وهو الزبور:{وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً}[النساء:١٦٣] فإنما نزل بعد التوراة، لكن التوراة بنزولها:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى}[القصص:٤٣]، أي: القرون التي قبل التوراة، أما من بعد أن أنزل الله تبارك وتعالى التوراة فإنه لم يهلك أمة بأكملها من الأرض، وهذه مرحلة عظيمة جداً لهذا الكتاب؛ ولهذا فإن فرعون أهلك قبل نزول التوراة؛ لأنه أهلك أثناء خروج موسى عليه السلام وقومه من مصر، فلما أن عبروا البحر إلى الصحراء، {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}[الأعراف:١٣٨] وكانت القصة.
ثم كانت دعوتهم إلى دخول الأرض المقدسة، ثم قولهم:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[المائدة:٢٤] ثم ضرب عليهم التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض -عياذاً بالله-، وفي جبل الطور أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه، وألقى إليه هذه الألواح -هذا الكتاب العظيم: التوراة-.
ومع ذلك لما عاد إلى بني إسرائيل، لم يكن يعلم أن الله قد فتن قومه من بعده، فلما علم بذلك ألقى الألواح من شدة الغضب، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، ولا شيء في الدنيا أعظم وأفضل من تلك الألواح؛ لأنها كلام الله، وكتاب الله عز وجل الذي أعطاه.