نبي الله سليمان سخر الله له أكابر الجن، وكما قال تعالى:{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ}[سبأ:١٤] فلا تأكل الأرض أجساد الأنبياء، وتوفي وقبضه الله وهو قائم عليه السلام وبيده العصا متكئ عليها، فكان الجن يأتون وينظرون إليه ويشتغلون؛ لأن الله سخَّرهم لسليمان {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}[ص:٣٥] أي إذا مات سليمان عتق الجن من الخدمة، فكانوا ينتظرون موت سليمان حتى يعفو من الخدمة ويصبحوا أحراراً، فكانوا يأتون فينظرون فإذا بسليمان واقف، فيشتغلون ويعملون في العبودية، وما دلهم على موته إلا دابة الأرض، هذه الدابة التي تأكل الخشب أكلت العصا فسقطت العصا فسقط سليمان، يقول تعالى:{فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}[سبأ:١٤] لو كانوا يعلمون الغيب، فمجرد ما مات وعلموا أصحابهم عتقوا، لكن بقوا في العذاب المهين سنين وراء سنين، وهم يقولون: إن نبي الله سليمان حي.
وكل ما كان عن علم وخبرة لا يدخل في هذا الباب، المهندسون أو الجيولوجيون الذين يقولون: إن الماء على بعد كذا، هذا غير ذلك، هذا الذي هو صاحب خبرة وحرفة وعلم ولا يجزم، وإنما يقول: بإذن الله وينظر إلى عروق الأرض وما أعطاهم الله من العلم فيها، فهذا لا بأس به، ولا يدخل في ذلك ما سبق، أما إذا كان عنده حضرة يحتضر، وقالوا له الجن: في هذا المكان شيء وأخبر به، فهذا لا يخلوا إما أنه يدعي علم الغيب، وإما أنه يذبح للجن -والعياذ بالله- ويقرب لهم من القربات، مما يجعلهم يخبرونه.
ولهذا يوم القيامة يقول:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ}[الأنعام:١٢٨] أي: أضللتم كثيراً من الإنس وأخذتوهم وعبدوكم من دون الله (وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ) يجاوبون {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ}[الأنعام:١٢٨] كيف كانوا؟ كنا نذبح لهم ويعلمونا، يأتونا وندعوهم ويعالجونا، إنما استفدنا واستفادوا، لكنه متاع قليل -نسأل الله العافية- متاع ووراؤه جهنم، والله ليس بمتاع ولا استمتاع، فيقع الاستمتاع من الطرفين، يقول: اذبح له في المكان الفلاني؛ لأنهم جن، الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يطلعهم على ما لا يطلعنا عليه.
أما العلم البحت فلاشيء فيه، فالعلم يرفع الله به الوضيع الحقير من الناس، يأتوه الملوك ويسلموا على يده ويستفتونه، بل يرفع الله الكلاب حتى الكلاب يرفعها بالعلم، فالكلب المعلم {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}[المائدة:٤] الكلب العادي إذا أكل من طعامك أو ولغ في الإناء، فيجب عليك أن تغسله سبعاً إحداها بالتراب، لكن الكلب المعلم إذا اصطاد شيئاً فإن ريقه طاهر، وتأكل هذا الشيء، وانظروا كيف يجعل العلم، الشيء طاهراً ولو كان نجساً؟! فكيف إذا تفقهنا في ديننا -نسأل الله أن يفقهنا وإياكم في الدين- فما كان نتيجة العلم والخبرة والتجربة فلا يدخل في باب الكهانة والشعوذة، وإنما الذي يدخل في الشرك هو الكهانة.
أما دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل: يا محمد احفظنا أو يا جبريل أو يا ابن عباس أيضاً فهذا من الشرك، وقد تقدم ما يكفي أن دعاء غير الله شرك.
الحلف بغير الله يعد من الشرك، (من شرك الألفاظ){من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك} كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الآخر الصحيح: {من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت} فمن حلف بغير الله فهذا من شرك الألفاظ لا يخرج من الملة لكنه أكبر وأخطر من الذنوب الأخرى، لأن الشرك أخطر الذنوب، والشرك الأصغر أخطر من أكبر الذنوب التي ليست بشرك، وإن حلف بغير الله معتقداً تعظيم المحلوف به كتعظيم الله أو أكثر، كما يقال لبعضهم: يحلف بالله قال: لا أصدق حتى تحلف بالولي فلان أو بالسيد فلان، وعندنا هنا شيء آخر، يقولون: ما نصدق حتى تطلق، إذا حلف بشيء غير الله، ويعتقد أنه أعظم من الحلف بالله وأبلغ، فيكون حينئذٍ من الشرك الأكبر.
إذا حلف بغير الله معتقداً تعظيمه كتعظيم الله أو أكثر أصبح من الشرك الأكبر، أما إذا حلف بغير الله فقط هكذا فهذا على خطر عظيم، وأما إن حلف بغير الله بلفظ يجري على لسانه من غير قصد فيجب عليه أن يستغفر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الحين، وأن يشهد أن لا إله إلا الله.