للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من نتائج الانحراف في التربية]

ظهرت مدارس اليأس والقنوط نتيجة هذه التربويات والنظريات، فـ الوجودية -كما عبر عنها سارتر أو ألبير كاميو وأمثالهم- يقولون: 'لا حل إلا اليأس' أي: اليأس من الوصول إلى المعرفة، اليأس من أن الإنسان يعرف الحكمة من وجوده أو من أين جاء؟ أو إلى أين يذهب؟ لأنهم قالوا: لا يمكن أن تصل الإنسانية إلى معرفة هذه الحقائق، فخير لنا أن نريح أنفسنا من هذا، وأن نعيش الحياة العبثية.

وهذا ما قرره كانون -الفيلسوف الفرنسي الشهير- بقوله: 'لو كنت شجرة بين الأشجار أو قطاً بين الحيوان لكان لهذه الحياة معنى، أو على الأصح لما كانت المشكلة مطروحة -لم تكن عنده مشكلة في: من أنا؟ وإلى أين أذهب؟ - لأنني أكون منتمياً إلى هذا العالم الذي أقادمه الآن بكل إدراكي'.

فالصراع سببه الضلال عن الهدى، ونحن نذكر قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أحد جبل يحبنا ونحبه} جبل! سبحان الله! بل نحن نعلم أن كل هذه الموجودات تسبح الله، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:٤٤].

فالمسلم عندما يصلي، ويذكر الله وهو خالٍ في طريق، أو يتأمل وهو يسير، ثم يتذكر هذه النجوم والشمس، والكون كله يسبح الله، لاشك أنه لا يشعر بعداوة مع الموجودات؛ لأن الكل يعبد الله ويسبحه، ولكن كلٌ على طريقته، والله قد علم صلاته وتسبيحه.

أما أولئك فيقول أحدهم: 'إن هذا العقل السخيف هو ما يجعلني متضاداً مع كل الموجودات' سبحان الله! بل أوردوا على اليأس أدلة ليصححوا نظريتهم الجديدة، فقد قال الفيلسوف فريدرك نيتشه: 'إن الفلسفة الحديثة بكاملها تنحصر في نظرية عن المعرفة، وهي فلسفة لا تستطيع أن تتخطى عتبة ذاتها، وقد حرصت كل الحرص على إنكار حقها في الدخول، هذه بالتأكيد فلسفة تلفظ أنفاسها الأخيرة، إنها نهاية واحتضار، وشيء يثير الشفقة' يقول: الآن الحضارة والفلسفة مفلسة، فليس لديهم أي شيء، لا قيمة ثابتة ولا معيار صحيح.

ثم يقول الكاتبان: 'إذاً: فكسوف العالم في الفلسفة المعاصرة كسوفٌ كاملٌ ومطلق، إن البذرة شديدة الضآلة، البريئة في الظاهرة التي زرعها بيكون وجاليليو في القرن السابع عشر، قد استغرقت نيفاً وثلاثمائة عام لتثمر في عصرنا هذا ثمرة اليأس الفكرية المرة والعدمية، وانفصام الإنسان عن العالم' أي: فبعد ثلاثمائة سنة من تركهم للدين، وقولهم إننا نسير على مقتضى العلم كانت الثمرة هي اليأس الفكري، والعدمية، وانفصام الإنسان عن العالم يقول: 'هذه هي المحصلة النهائية للفلسفة في إطار النظرة القديمة، وهذا يستتبع بالضرورة أنه إذا كنا لا نستطيع أن نعرف شيء عن العالم، فسنون أيضاً قد خسرنا العلم'.

فبعد جهد ثلاثمائة سنة، يتضح لهم أن حقائقهم ومعرفتهم بالعالم والإنسان صفر! فقد خسروا العالم وخسروا العلم، وصدق الله إذ يقول: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:١ - ٣]، وهؤلاء هم الذين ليسوا بخاسرين، فحصيلة أكثر من ثلاثمائة سنة من التجربة، والنظريات، والكد الذهني في الجانب الإنساني، لو أنها كانت على إيمان ودين؛ لأعطت البشرية علوماً عظيمة، وأنجزت لها إنجازات، وأرباحاً هائلة، ولم تكن هذه الخسارة التي يعترفون بها الآن.

لكنَّ العجب ممن يتبع الخاسرين! وممن يعيش في النور ثم يتبع السائرين في الظلمات! من الذي ينتمون إلى هذه الأمة العظيمة المجتباة المصطفاة، التي أورثها الله تعالى الكتاب والحكمة ثم يعيشون في ركاب هؤلاء المخدوعين، والتائهين، والحيارى!