[التحول من كفر الخرافة والجهل إلى كفر الطبيعة والعلم]
ثم تحولت القضية، وأصبحت ظاهرة عامة، وبدأ ذلك في أوروبا خاصة؛ لأن أوروبا تعرضت لما لم يتعرض له غيرها من الأمم، فقد تعرضت أوروبا لتأثير الحضارة الإسلامية وتأثير الإسلام عامة، وهذا التعرض جعلها تكتشف أن ما هي عليه من الحياة؛ إنما هي حياة لا إنسانية؛ بل همجية ووحشية؛ فأخذوا بما يسمى (النهضة الأوروبية)، فشرعوا في النهضة.
إلا أن العداء للإسلام منعهم من أن يعتنقوا الإسلام فينعموا بعدالة الإسلام وهدايته وطمأنينته؛ واستفادوا من المسلمين في (سلوك المنهج التجريدي العلمي) واستفادوا من المسلمين في (النظر والبحث العقلي) في حين كانت الهيئة الدينية المسماة بالكنيسة تفرض عليهم كل شيء فرضاً وقسراً وقهراً وإن لم يقبله العقل؛ وهل يقبل العقل شيئاً من خرافات النصارى؟! لا يقبلها.
ولكن العقل الأوروبي أُرغم على أن يقبلها؛ فلما استفاد من الحضارة الإسلامية بصيصاً من الحق والنور؛ رفض حضارته ودينه -وإن كان لم يدخل في دين المسلمين- فتزعزعت ثقة الإنسان الأوروبي فيما كانت الكنيسة تمليه عليه من حكمة الوجود وسبب الوجود، فقد كان الأوروبي يؤمن بأن الغاية من الوجود هو التكفير عن الخطيئة.
وذلك أن الله تعالى خلق آدم، فأكل من الشجرة، ووقع في الخطيئة؛ فرأى أن يفتدي العالم، فأرسل ابنه الوحيد -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- ثم صُلِبَ؛ ليكفر عن الخطيئة، ومن أراد طريق الخلاص من هذه الحياة الدنيا والنجاة فيها، فعليه أن يقتفي نهج المسيح، ويؤمن بأنه هو المخلِّص والمنقذ، فهذا ملخص ما كانت النصرانية تقوله وإلى الآن يدينون به، وكانوا يعتقدون أن الإنسان هو سيد المخلوقات، وهذا يعطي القناعة والرضا بالوجود مع عدم السؤال عن حكمة هذا الوجود.
فالذي حصل في أوروبا أن الناس فقدوا الثقة في هذا كلِه، قليلاً قليلاً، فكان أول ما تزحزحت في أذهانهم حكمة الوجود وغايته.