إن التخصص -أيها الإخوة الكرام- مطلوب, بل لا بد منه لكي يُتقن الإنسان فناً أو مجالاً، لكن كثيراً من الشباب باسم هذا التخصص، يغفلون ضروريات وأساسيات لا ينبغي إغفالها, ثم بعد ذلك يرون أن ما أتوا به هو الحق وحده، فماذا تكون النتيجة؟ إذا أخذتُ أنا جانباً من جوانب العلم أو الدعوة أو الجهاد ثم جعلته هو كل شيء، ثم بعد ذلك اعتبرت أن من لم يكن مشاركاً لي فيه فلا شيء عنده، فإن ذلك ينتج عنه الاختلاف، ولا بد؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر ذلك من ضمن أسباب اختلاف الأمم قبلنا:{فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}[المائدة:١٤] كمثل النصارى أخذوا حظاً ونسوا حظاًآخر, فإذا نسي المسلم حظاً مما ذكر به -وإن أخذ بحظ آخر- فإنه يعادي من أخذ بالحظ الذي نسيه وترك الحظ الذي أخذ به، والحظ معناه القسمة والنصيب.
فمثلاً: شاب مسلم اتجه إلى الدعوة وجعل همه الدعوة, وأي شيء يعاب على من اتجه إلى الدعوة؟! بل هذا فضل عظيم وخير كبير، لأن هذا منهج الأنبياء وهو طريقهم, لكن باتجاهه إلى الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واشتغاله بها دائماً وعدم اهتمامه بالجانب العلمي -مثلاً- فلم يهتم بالعلم الشرعي، ولا بالاطلاع، ولا بالتفقه بالدين، ولا في معرفة المسائل بأدلتها التفصيلية, ثم بعد أن تعمق في ذلك ورأى كثيراً ممن تفقه وتبحر وتوسع في المسائل لم يغير منكراً، ولم يحرك ساكناً ولم يؤدِّ واجباً, فيرى أن الحق كل الحق هو ما عنده وما هو عليه، فيعيب ذلك الآخر, والآخر يعيبه.
فيقول: أنت تدعو إلى الله على جهل، وأنت كذا، وأنت كذا وهذا الشاب يزداد حرصاً وتمسكاً بما هو عليه عندما يرى الآخرين لم ينتفعوا بعلمهم، ولم ينشروا هذا العلم, فيقول: الحمد لله الذي جعلني من أهل الدعوة إلى الله، ولم يجعلني من أهل العلم والفقه في الدين، وهو في الحقيقة نسي حظاً وأخذ حظاً، فيقابله الآخر الذي جاءته العزلة من جانب آخر، وذلك أنه يقول: يا سبحان الله! دعوة بغير علم، يدعون ويذهبون إلى كل مكان، ويتحدثون عن أي شيء، ولكنهم جهلة بكتاب الله، وجهلة بسنة رسوله، وما عندهم شيء من العلم فلا خير في هذه الدعوة، فلنتركها ونتفقه ونتثقف.
إلى متى تتفقه يا أخي؟! حتى تكمل علوم شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية أو الحافظ ابن حجر! أو إلى متى إذاً؟ فيضع هذا الشاب أمامه مشاريع ضخمة لا يستطيع عشر عشرها، وخاصة في زماننا هذا, ثم يظل يستمر ويقرأ ويطلع تاركاً الدعوة إلى الله جانباً، ثم إذا ذكر عنده من يقوم بالدعوة أو طلب منه أن يدعو أو يشارك في الدعوة فإنه يقول: الدعوة ليست بجهل، الدعوة ليست أي كلام! وهذا صحيح بلا شك, ولكن ادعُ بما عندك من العلم وبما علمك الله.
فيقول الأخ: هذا فيما بعد، وهذا في وقت آخر، فَيُسَوِّف ويعلل، والنتيجة: أن يصبح هذا خصماً لهذا، وإن لم يتخاصما في الحقيقة، فليس شرطاً في الخصومة أن تكون بمعنى المواجهة، ولكن إذا أخذ هذا بطرف، وهذا بطرف آخر فإنهما ضدان متقابلان، فيأتي الشيطان أيضاً، فيجعل من ذلك خصومة حقيقية وخلافاً حقيقياً.