ومن هنا جاء الوعيد الشديد في حق هذه الأمة إن هي ركنت إلى أي صارفٍ أو مُغرٍ أو ملهٍ عن محبة الله ومحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[التوبة:٢٤] فهذا فسق وعمل يستوجب الوعيد الشديد: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}[التوبة:٢٤] وهذا الأمر من أول بداياته أن يُذهب الله تبارك وتعالى النصر والعز والتمكين، ويورث تلك الأمة الذل والخسارة والضياع، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحديث الذي يقارب معنى هذه الآية:{إذا تركتم الجهاد وتبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر، سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم}، وهذا هو الوهن الذي أخبر عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو حب الدنيا وكراهية الموت، لكن إذا كان الله ورسوله أحب إلينا من كل هذه المغريات والشهوات والملهيات فهذه هي حقيقة الإيمان، ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً} ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث الآخر: {ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار} فهذه هي حقيقة أو ضرورة المحبة، أن يكون قلب الإنسان ممتلئاً بحب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحب ما أمر الله ورسوله به، ولا يكون في قلبه أدنى مثقال ذرة من كره الله، أو كره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو كراهية شيء مما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد وقع في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصة ذكرها الله تبارك وتعالى في القرآن في شأن المنافقين الذين خلت قلوبهم من محبة الله ومحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -عافنا الله وإياكم من النفاق- يقول الله تبارك وتعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}[التوبة:٦٥ - ٦٦] فهذه الآيات نزلت في المنافقين لما أظهروا بغض أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكرههم واستهزاءهم بهم، فهم لم يستهزئوا بالله عز وجل بعباراتهم التي قالوها، ولم يستهزئوا برسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يظهروا بغض الله عز وجل، أو بغض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما أظهروا بغض الصحابة على طريق الاستهزاء بهم، الاستهزاء الذي ينمُّ عما في القلب من بغضاء وعداوة وحقد يتنافى مع المحبة التي أمر الله تعالى بها له ولرسوله وللمؤمنين، فقالوا:{ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أوسع بطوناً ولا أجبن عند اللقاء}، فهم سخروا واستهزءوا بالصحابة الكرام من القراء، بأنهم يقبلون عند الطعام، ويتأخرون عند الفزع وعند مجيء العدو، وكأن حال المنافقين العكس، وهذا هو أبطل الباطل وأكذب الكذب فماذا كانت النتيجة، أنزل الله تبارك وتعالى هذه الآيات:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}[التوبة:٦٥] وهذا الذي وقع، فعندما سألهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: إنما كنا نمزح ونلهو ونخوض ونلعب، ولم نكن نقصد الإساءة إلى الصحابة وإلى هؤلاء القراء، فبماذا رد الله تبارك وتعالى؟ أرشد الله رسوله وعلمه كيف الرد عليهم:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}[التوبة:٦٥] فهم لم يذكروا الله عز وجل في كلامهم ولم يذكروا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي: لم يستهزئوا بهما، وإنما استهزءوا بالقراء، ولكن الرد أتى من عند الله عز وجل:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}[التوبة:٦٥] ثم يقول: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}[التوبة:٦٦] فعملكم هذا لا يغفره عذر، ولا يطهره ما تقولون وما تزعمون، بل هذا مخرج لكم من دين الإسلام -والعياذ بالله-.