للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الغفلة عن عواقب التحاكم إلى غير الشرع]

قال: 'فيفيد -أي: هذا الكلام- أن الرد إلى غير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عند التنازع شر محض وأسوأ عاقبة في الدنيا والآخرة '.

وهذا واقع تشهد به أحوال الأمم في هذا الزمان وفي غيره؛ أن التحاكم إلى غير شرع الله والتقاضي إلى غير ما أنزل الله شر في الدنيا، وما ينتظرهم عند الله تبارك وتعالى أعظم من ذلك وأشد، قال تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم:٣٣].

يقول: 'عكس ما يقوله المنافقون'.

أي: أن هذا الذي قرره الله هو 'عكس ما يقوله المنافقون' فهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، والطاغوت هو القانون وزناً ومعنى، فالطاغوت يعني القانون، والقانون يعني الطاغوت.

والطاغوت: هو ما تجاوز به العبد حده عموماً من معبودٍ أو متبوعٍ أو مطاعٍ في غير طاعة الله ورسوله.

فطاغوت كل قوم هو ما يعبدونه من دون الله أو يتحاكمون إليه ويطيعونه في غير طاعة الله، ومن ذلك هذه القوانين الوضعية فهؤلاء المنافقون يقولون: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء:٦٢]، وهذه دعاوى قديمة وحديثة، ولهذا فلا يظن أن أحداً يتجرأ على الله عز وجل من غير تأويل ولا شبهة ولا دعوى، فحتى الأصنام لما عبدت لم تعبد إلا بتأويل، مع أنها حجارة صماء بكماء كما يراها العقلاء؛ لكنهم قالوا: هذه الحجارة نحتت على صورة "ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر" وهؤلاء رجال صالحون لهم عند الله مكانة فنحن نحب هذه الصور لكي نتذكر عبادتهم، ثم عبدت من دون الله بعد أن دُرس العلم.

وهؤلاء المتحاكمون إلى القوانين الوضعية لا يقولون: هذا القرآن ليس بجيد؛ بل يقولون: نحن نحب القرآن والسنة ولا نريد أن نخالفهما؛ لكننا نريد أن نوفق بينها وبين متطلبات القرن العشرين، وبين الإسلام وبين متطلبات الحياة الحديثة، فنتحاكم إلى القوانين ونحن لم نخرج عن الإسلام ونحن نحب القرآن والسنة، فتراهم يعتمرون ويحجون ويطوفون ويسعون، وربما يتصدقون ويصومون ويصلون، لكن يقولون: نحن الآن في القرن العشرين، والعالم قد تحضَّر، والأحوال قد تغيَّرت، والأمور قد تطورت، فلا بد أن نوفق بين الإسلام وبين متطلبات الحياة الجديدة، فنسمح بالأنظمة والقوانين، ونطور موضوع المرأة والحياة الاجتماعية ولا نزال مسلمين!! فهم لا يقولون: اكفروا بالله، ولم يوجد أحد قام وقال: اكفروا أيها الناس! ولذلك فإن مشكلة الشعوب المغفلة، والأمم التي يحيطها مكر الليل والنهار أنها تنتظر من يقول لها: اكفري بالله حتى تتنبه إلى خطورة المؤامرة، وأعداء الله أذكى من أن يقولوا لهم ذلك، لأن هذه أساليبهم ومهارتهم.

فكل عصر فيه تلبيس وكيد يناسبه، ومعلمهم الأول إبليس لم يقل لأبينا آدم عليه السلام: اكفر بالله، بل قال كما قال تعالى عنه: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:٢١]، وقال: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:١٢٠]، وقال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:٢٠].

فهؤلاء وأمثالهم وإن تسموا وادعوا أنهم مصلحون وقالو: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:١١] فقد بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كذبهم وباطلهم، فقال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) [البقرة:١٢].

ومن العجيب أن كل من يكتب في تنحية شرع الله أمثال جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ومدحت باشا في اصطلاح المفكرين الغربيين والمستشرقين وأذنابهم يسمونهم: المصلحين أو زعماء الإصلاح حتى أنهم أطلقوا على حركة كمال أتاتورك: (الحركة الإصلاحية)!! قال: 'وعكس ما عليه القانونيون من حكمهم على القانون بحاجة العالم، بل ضرورتهم إلى التحاكم إليه، وهذا سوء ظن صِرْف بما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ'.

أي: أن من يقول: لا بد أن نضع القوانين أو نتحاكم إلى القوانين في شئون العقوبات، أو ما يسمونه بقانون العقوبات أو الجزاء، أو في القانون المدني، أو في القانون التجاري، أو في المعاملات التجارية عموماً، أو في المعاملات المالية، أو في أي جانب من هذه الجوانب، من يقولون ذلك فهم إنما يسيئون الظن بما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن معنى كلامهم ولازمه: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إما أنه لم يعلم بأن العصر سيتغير، وأن الأحوال سوف تتطور، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ومن قال أو اعتقد ذلك فقد كفر.

وإما أن يقولوا: إنه يعلم لكنه لم ينزل لذلك أحكاماً، فيكون - تعالى الله عن ذلك - قد تركنا هملاً في أمور عظيمة نحتاجها، ويكون هذا الكتاب ليس فيه تفصيل كل شيء، ويكون أمره بأن نحتكم إلى الله ورسوله في كل شيء، وأن نرد كل شيء تنازعنا فيه إلى الله لغواً؛ لأنه يأمرنا بالرجوع إليه في كل شيء مع أنه لم ينزل فيه أحكاماً لكل شيء، وهذا تناقض لا يفعله أي عاقل، فكيف بالله -تعالى الله عن ذلك- فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليمٌ حكيم، وهو الذي أنزل هذا الكتاب مفصلاً: {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:٨٩] وهو الذي أمرنا أن نجتهد وأن نبحث، وجعل للمجتهد المصيب أجرين وللمخطئ أجر.

يقول: 'ومحض استنقاص لبيان الله ورسوله، والحكم عليه بعدم الكفاية للناس عند التنازع وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة.

إن هذا لازم لهم'.

فلا بد أن يلزمهم ذلك، أو أن يذعنوا لحكم لله ويتوبوا ويعودوا إلى شرع الله وإلى ما أنزل الله.

قال: 'وتأمل أيضاً ما في الآية الثانية من العموم، وذلك في قوله تعالى: {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:٦٥] فإن اسم الموصول - (ما) بمعنى الذي- مع صلته من صيغ العموم عند الأصوليين وغيرهم، وذلك العموم والشمول هو من ناحية الأجناس والأنواع كما أنه من ناحية القَدْر'.

فمن ناحية النوع: كمال أو دم أو عرض أو حقوق أو بين الدول بعضها مع بعض، أو بين دولة وفرد، أو بين جماعة وجماعة، أو بين فرد وفرد، فكل ذلك داخل في "ما" من حيث النوع.

ومن ناحية المقدار: في درهم أو درهمين أو أكثر أو أقل لأنها تدل على العموم.

يقول: 'فلا فرق هنا بين نوع ونوع، كما أنه لا فرق بين القليل والكثير، وقد نفى الله الإيمان عمن أراد التحاكم إلى غير ما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المنافقين'.

هذا دليل آخر كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:٦٠] وهنا يظهر فقه الشيخ -رحمه الله- ودقة استنباطه؛ فإن قوله: (أَلَمْ تَرَ) أسلوب يستلفت الذهن، فكأنه يقول: انظر وتعجب، أيها المخاطب! وإن كان الأصل في الخطاب أنه للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في هذه الآية وفي كل آية فيها هذا الأسلوب {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:١] ثم قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} [النساء:٦٠] فهم ما آمنوا في الحقيقة ولكنهم يزعمون، والزعم هو الكذب يقوله ولا حقيقة ولا صحة له.

يقول: 'فإن قوله عز وجل: {يَزْعُمُونَ} [النساء:٦٠] تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع الإيمان في قلب عبد أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر'.

وانظروا قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا} [النساء:٦٠] فهم لم يتحاكموا إلى الطاغوت، ولم يتبعوه، ولم يتخذوه ديناً، ولم يلزموا الناس به ويردوهم إليه بالقوة؛ بل أرادوا أن يتحاكموا إلى الطاغوت، ويرون أنه لا بأس به، ومع ذلك نفى الله عنهم الإيمان ووصفهم بما وصفهم به.

وبهذا يظهر أن الأمر يتعلق بالإرادة، فإن الإنسان إذا أراد الكفر قد يكفر بذلك إذا استحله، وإن لم يفعل الكفر، ومثل هذا من لا يمتلك الأموال والبنوك بل هو فقير، لكنه يدافع عن أكلة الربا وعن البنوك؛ فإنه يأثم مثلهم وإن استحل ذلك فيكفر وإن لم يأكل.