[أهل الذمة في عهد الرشيد والمأمون]
قال ابن القيم رحمه الله: 'وأما هارون الرشيد فإنه لما قلَّد الفضل بن يحي أعمال خراسان، وجعفراً أخاه ديوان الخراج، أمرهما بالنظر في مصالح المسلمين، فعمرت المساجد والجوامع والصهاريج والسقايات، وجعل في المكاتب مكاتب لليتامى، وصرف الذمة عن أعمالهم، واستعمل المسلمين عوضاً عنهم، وغيَّر زيهم ولباسهم، وخرَّب الكنائس، وأفتاه بذلك علماء الإسلام'.
قال ابن القيم: 'وأما المأمون؛ فقال عمرو بن عبد الله الشيباني: استحضرني المأمون في بعض لياليه ونحن بـ مصر وقال لي: قد كثرت سعايات النصارى وتظلم المسلمون منهم، وخانوا السلطان ثم ذكر قصتهم وكيف ملكوا إلى أن قال: وفيهم يقول خالد بن صفوان من قصيدة له يمدح فيها عمرو بن العاص رضي الله عنه، ويحثه على قتلهم ويغريه بهم:
يا عمرو قد ملكت يمينك مصرنا وبسطت فيها العدل والإقساطا
فاقتل بسيفك من تعدى طوره واجعل فتوح سيوفك الأقباطا
فبهم أقيم الجور في جنباتها ورأى الأنام البغي والإفراطا
عبدوا الصليب وثلثوا معبودهم وتوازروا وتعدو الأشراطا
وبقي في نفس المأمون منهم، فلما عاد إلى بغداد اتفق لهم مجاهرةٌ في بغداد بالبغي والفساد على معلمه علي بن حمزة الكسائي، فلما قرأ عليه المأمون، ووصل إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: ٥١] قال الكسائي: يا أمير المؤمنين! أتقرأ كتاب الله ولا تعمل به؟! فأمر المأمون بإحضار أهل الذمة، فكان عدة من صرف وسجن (ألفين وثمانمائة) وبقي جماعة من اليهود منحازين إلى حماية بعض جهاته، فخرج توقيعه بما نسخته: أخبث الأمم اليهود، وأخبث اليهود السامرة، وأخبث السامرة بنو فلان، فليقطع ما بأسمائهم من ديوان الجيش والخراج إن شاء الله تعالى.
ودخل بعض الشعراء على المأمون، وفي مجلسه يهودي جالس! فكان من مصائب المأمون أنه كان يدني اليهود والنصارى ويجالسهم، ويأتي بهم إلى مجلسه على أنهم أدباء وحكماء وأطباء ومن باب الفلسفة، وعلم الكلام الذي كانوا يتفننونه، فدخل عليه شاعر مسلم مؤمن أخذته الغيرة لله ولرسوله والحمية لدين الإسلام، فأنشده:
يابن الذي طاعته في الورى وحكمه مفترضٌ واجب
إن الذي عُظمت من أجله يزعم هذا أنه كاذب
أي ما عُظِّم المأمون إلا لأجل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولأنه من أهل البيت ومن بني العباس وأنه خليفة المسلمين.
قال: إن الذي عُظمت من أجله وهو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزعم هذا اليهودي أنه كاذب فقال المأمون لليهودي: أصحيح ما يقول؟ قال: نعم، فأمر بقتله".