للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حياة القلب وموته]

فالحياة حياة القلب، والموت موت القلب، والمرض مرض القلب.

ولذلك نجد آيات عظيمة وكثيرة تتحدث عن أعمال القلوب، وأعظم هذه الأعمال بلا ريب هو الإيمان الذي هو الدين كله، ونحن الذين خاطبنا الله تبارك وتعالى باسم الإيمان حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:١٠٤] والمقصود به: الذين استجابوا لله تبارك وتعالى، وأذعنوا ظاهراً وباطناً، قولاً وعملاً، فالإيمان عند أهل السنة والجماعة هو -كما تعلمون- (قول وعمل).

فالقول قولان والعمل عملان.

فالقول: قول القلب وهو: إقراره وتصديقه، وقول اللسان وهو: إقراره وتصديقه، أي: نطقه.

والعمل عملان: عمل القلب، وعمل الجوارح.

فلا أحد من المسلمين يجهل أنه لا بد من عمل الجوارح كالصلاة والصيام والزكاة وما أشبه ذلك، والأوضح عند المسلمين عامة الإقرار باللسان أي: (قول اللسان) , لكن ما يتعلق بالقلب -وهو الأهم- قد يخفى على كثير من المسلمين.

ولهذا نجد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يخاطبنا بذلك ويبين لنا أهمية القلب فمثلاً: لما جاءت الأعراب، وقالوا -كما حكى الله عنهم-: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:١٤] فالأعراب أسلموا بمعنى أنه: حصل منهم الانقياد الظاهر، وأصل الإقرار والتصديق الذي يكون بالقلب، ولكن لم يدخل الإيمان في قلوبهم.

فالقلب لم يصل بعد إلى أن يكون قد آمن حقاً، وهذه درجة لا يجوز لأحد أن يدعيها، فالإيمان في الحقيقة هو إيمان القلب، ولهذا قال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:٧] وذلك في مخاطبة المؤمنين، فهكذا يكون تزيينه في القلب، ودخوله فيه، أما المؤمنون السابقون فقد زينه في قلوبهم، وأما الأعراب فهو لما يدخل قلوبهم بعد، مع أن الجميع مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, مثلما نكون نحن الآن في الصلاة -مثلاً- في المسجد وفي الجهاد, فكلنا في مسجد واحد وفي معركة واحدة, لكن بين هذا وذاك من التفاوت مثل ما بين السماء والأرض، بقدر الإيمان وبقدر أعمال القلوب من الإخلاص والخشوع والإنابة والإخبات وغير ذلك من أعمال القلب.

أما أعمال الجوارح فإنها لا تكفي من دون أعمال القلب كما حصل في عهد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الرجل الذي كان يبلو بلاءً شديداً ضد المشركين، ومع ذلك يقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هو من أهل النار}، ربما يكون ذلك مع وجود من هو من أهل الإيمان والتقوى ومن أهل الجنة في الجيش, ولم يبل ذلك البلاء ولم يقتل مشركاً واحداً ولم يَصُلْ ولم يجل في المعركة، وكذلك في الإنفاق والصدقة والإحسان وسائر أعمال الخير التي إنما نريد أن نعبد ونتقرب إلى الله تبارك وتعالى بها.

إذاً: الإيمان هو: إيمان القلب، والتقوى -أيضاً- هي: تقوى القلب، كما قال الله: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:٣٢] ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا، وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} رواه مسلم، وأحمد، فمحل التقوى هو القلب، والتقوى تشمل كل أعمال الخير والبر والصلاح، ولاسيما إذا أفردت, وقد بحث هذه المسألة شَيْخ الإِسْلامِ في أول كتاب الإيمان عند كلامه على لفظ البر ولفظ التقوى، وأمثالها من الألفاظ التي تأتي في القرآن والتي إذا جاءت فهي تشمل كل أعمال الإيمان الظاهر منها والباطن.