لولا أن الله -تبارك وتعالى- يبارك في أعمار المؤمنين لما استطاع دعاة الهدى وأئمة التقى وعلماء الصلاح والإصلاح أن يفعلوا شيئاً، ماذا نفعل لو أردت أنا وإياكم أن ننسخ كتب شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية باليد؟ قد تنتهي الأربعين سنة ولم نكتبها أو شبه ذلك -سبحان الله- فكيف يكون الحال إذا كان هو يفكر ويجمع العلم، ثم متى يكتب، ومتى يفتي؟! وأين عبادته وقد كان من أعبد الناس؟! ولنمثل بالعلماء المتأخرين حتى لا يقال إن الأنبياء والصحابة شيء آخر، ولا شك أنهم كذلك، لكن نقول: القدوة موجودة حتى في المتأخرين، في عصور الظلمات وفي عصور الانحراف فلابد أن يوجد من يحافظ على العمر ويعرف أهميته، كـ النووي رحمه الله وابن الجوزي، كيف كتبوا هذه الكتب، شيء عجيب! أحصى بعض ما كتبه بعضهم في اليوم فوجد أنه كراسة، والكراسة عشرون ورقة، كراسة في يوم! فأين النوم، وأين الأكل، وأين حقوق الأهل، وأين العبادة، وأين، وأين؟! كل هذا بالبركة، لأنهم عرفوا قيمة هذه الحياة، فسخر الله -تبارك وتعالى- طاقاتهم وهممهم فتوجهوا إلى أمر واحد.
والآن نجد كل من يُسمَّوُن بعلماء النفس والاجتماع، وكل المجربين حتى الآباء والأمهات، يقولون: إذا أردت أن تنجز أعمالك فحدد هدفاً واحداً واجتهد فيه، واعزم -بإذن الله- على أن تنجزه، لكن إذا حددت هدفين أو ثلاثة فقد تضيع الثلاثة ولا تحصل على شيء، وأما أولئك فقد جعلوا الهم هماً واحداً، كان أحدهم يصبح وهمه رضا الله والفوز بطاعته وجنته والدار الآخرة، وحدوا لذلك الهم، فإن عَبد فهو يرجو ما عند الله، وإن كَتب فهو يرجو ما عند الله , وإن خَطب فهو يرجو ما عند الله، وإن تزوج فهو يرجو ما عند الله، وإن جمع المال فهو يرجو ما عند الله، فالهم واحد ولكن الأعمال تختلف، ولهذا نجد أنهم كانوا جيلاً عظيمًا، وجيلاً واسعاً، ومع ذلك يقول تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}[العنكبوت:٦٩] كيف جمع الله وقال: (سبلنا) مع أنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يقول:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}[الأنعام:١٥٣] فهنا الصراط واحد، والسبل هي طرق الضلال والغواية التي على كل طريق منها داعٍ من دعاة جهنم -عياذاً بالله- لكن {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}[العنكبوت:٦٩]، فالسبل هنا هي طرق الخير الداخلة في الصراط وهو صراط واحد، وطرق الخير فيه مختلفة، ومن هنا كان تفاوت الناس الصالحين في عمارة الأوقات، لأن إنساناً آتاه الله تبارك وتعالى العلم فوقته في العلم، وآخر آتاه الله القوة فوقته في الجهاد، وآخر آتاه الله تعالى القدرة على العبادة، فوقته في عبادة وذكر وهكذا، مع وجود الواجبات المشتركة العامة، لكن من فضل الله -سبحانه- وتيسيره أنه جعل لكل إنسان ما يعمر به وقته من الخير، ومع ذلك فإن هناك كنوزاً ثمينة وغنائم باردة لكل مسلم، ولكل متقٍ لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.