أقول: لقد سبق معنا حديث عظيم جداً، وذكرنا اختلاف العلماء فيه، وجوابه الصحيح هو ما ذُكِر الآن وقد قرأنا رواياته، وشرحناه طويلاً، وهو حديث الرجل الذي أوصى بنيه عند موته: إذ قال لهم: أي أبٍ كنت لكم؟ قالوا: نِعْم الأب.
وهو رجل -كما جاء في إحدى الروايات والتي قرأناها- أسرف على نفسه في المعاصي، فهو رجلٌ مسرف عاصٍ وأدركته الوفاة، فأخذ يقلب صفحات العمر، وإذا كلها سواد، وظلام، وموبقات، وذنوب، فأخذ يفكر في المخرج منها، إذاً: في هذه اللحظة جاءه الخوف من الله سبحانه وتعالى، واستعظام الذنب، واللقاء كيف ألقى الله وأنا بهذه الذنوب؟ فمع أنه ارتكب ذنباً آخر، ووقع في غلط عظيم؛ ولكن بسبب هذا الاستعظام، وهذا الخوف، وهذا الحياء؛ غُفِر ذنبه المتأخر وذنوبه المتقدمة ما هو الذنب العظيم الذي وقع فيه، والخطأ الجليل؟ عندما ظن أن الله لن يقدر عليه.
فقال لأبنائه: إذا أنا مت فاجمعوا الحطب، وأحرقوني، ثم ذُرُّوني في الهواء، واجعلوا نصفي في البحر، والنصف الآخر في البر، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين.
هكذا تخيلَ! إذاً: ما الحل والمخرج من لقاء الله، ومن الوقوف بين يدي الله؟ لا عذر ولا حجة، فأعماله كلها ذنوب ومعاصٍ وإسراف.
قال: الحل يا أبنائي! أن تحرقوا هذا الجسد وتَذروه في الهواء، وتفرقوه في البر والبحر، وحينئذ لن يقدر الله تعالى على جمعه، كيف يجمعه فإذاً كأنه ينساه فينتهي، هذا هو المخرج كما كان يظن، مع أن هذا ليس بمخرج، فإن الله سبحانه وتعالى الذي هو على كل شيء قدير، إذا قال للشيء: كن كان، واجتمع ما في البر وما في البحر وكان، وأحياه الله سبحانه وتعالى، فهو الذي أنشأه أول مرة.
فيسأله عز وجل: لِمَ فعلتَ؟ هذا؟ السؤال الآن ليس عن الموبقات، ولا عن الذنوب الأولى، بل عن هذه المصيبة الكبرى التي أوصى بها.
قال: خوفك يا رب! أو خشيتك ومهابتك يا رب! فغفر الله تبارك وتعالى له.
إذاً: إذا اقترن بالذنوب والمعاصي خوفٌ وتعظيمٌ وهيبةٌ لله تبارك وتعالى، فإن هذه الذنوب إما أن تُمحى، أو تُكفَّر، أو تكون -كما قال الشيخ- كالصغائر وتأخذ حكمها، كما ذكر الله تبارك وتعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}[النساء:٣١] لأنها بما اقترن بها أصبحت صغيرة.