الوجه الثاني في تفسير قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً)
ثم ذكر الحافظ ابن كثير وجهاً آخر في الآية، وهو أن قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:٤٨] أي: أن المقصود هذه الأمة، وأن الله جعل لكل واحد من هذه الأمة سبيلاً إلى المقصد الصحيح، وهذا الكلام مرجوح، وكما قال الحافظ رحمه الله: لأن الله تعالى قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المائدة:٤٨] فلو كان المقصود هذه الأمة لما أتى بهذه الآية، وإن كان هذا المعنى صحيح، فإن الله تعالى جعل لكل إنسان سبيلاً في المقاصد الصحيحة، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:٦٩] , وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:١٥٣] والسبيل في الحقيقة واحد، لكن الذين جاهدوا في الله وعدهم بأن يهديهم سبله.
والمقصود: بالسبل الطرائق الموصلة إلى الخير، وطريق الخير في أصله واحد إلا أن له فروع تؤدي إليه بحسب ما أعطى الله.
فهذا سهل له المال يأخذه عن حله وينفقه في حقه، ينفق منه آناء الليل وآناء النهار، وهذا آتاه الله الحكمة فهو ينطق بها ويعلمها للناس.
وهذا آتاه الله الجهاد فهو آخذ بعنان فرسه في سبيل الله إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة.
وهذا أعطاه الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو يصدع بكلمة الحق وينكر على الناس، ومهما أوذي صبر واحتسب.
وهذا أعطاه الله العلم فهو يحفظ ويدون ويتتبع المسائل.
وهذا آتاه الله الصدقة بالماء ليس له شيء إلا بئر فهو يعطي الناس يشربون من الماء مجاناً بلا مقابل، وبعضهم يشتغل بالذكر وليس له مال كما قال فقراء الصحابة رضي الله عنهم: {ذهب أهل الدثور بالأجور} فدلهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على العوض، وهو ذكر الله من التسبيح والتحميد والتهليل.
فطرق الخير كثيرة وطاقات الناس واتجاهاتهم تختلف، ولا يعني ذلك أنه يهمل الجوانب الأخرى لكن يستفيد مما هو فيه، ولذلك لايستغني أحد عن أحد، فلو جاء عالم من العلماء الذين تحتاج الأمة إلى علمهم، وقال: إنه سيذهب إلى الجهاد نقول له: لا تذهب، فمن أين لنا بالعالم إذا قتلت؟ بينما نجد مثلك في القوة من يذهب فيجاهد وتكون نكايته في العدو أشد منك وأنت نحتاجك في العلم، وهكذا ومن الناس من يصلح في القضاء ولا يصلح في الإفتاء، ومن الناس من يصلح في الإفتاء ولا يصلح في القضاء، ومن الناس من يصلح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولايصلح في غيره.
فالمقصود مع أن كل المسلمين يقيمون دين الله، ويجتهدون في ذلك، لكن الله تعالى جعل طرائق مختلفة توصل إلى الخير، وكان هذا حال الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فكانوا جيشاً واحداً خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل معركة، لكن هذا معروف بعبادته، وهذا بصدقته، وهذا بحرصه، حتى أن بعضهم قد يحرص على شيء مما تزدريه أعين الناس، كالرجل الذي دخل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولحيته تقطر، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يقدم عليكم رجل من أهل الجنة} لأن ميزته عظيمة جداً، يغفل عنها كثير من الناس، وقد لاتعد في كتب المناقب والفضائل لأنها خفية، لكن هذا الرجل لا ينام ليلة وفي قلبه على مسلم شيء.
فسبحان الله! من يقدر على هذا، إن الإنسان كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ليبلغ درجة الصائم القائم بحسن الخلق} فإذا تعامل مع الناس يعفو ويصفح، وإن بلغه كلام فكأنه لم يسمعه، وإن أساءوا إليه استغفر الله لهم.
قال: 'ولكن هذا خطاب لجميع الأمم، وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة، التي لو شاء -كما في الآية- لجمع الناس كلهم على دين واحد، وشريعة واحدة، لا ينسخ شيء منها، ولكنه تعالى شرع لكل رسول شرعة على حدة، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده، حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة، وجعله خاتم الأنبياء كلهم، ولهذا قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم} [المائدة:٤٨] '.
أي: ليختبر ويمتحن كل أمة بما أوحى إليها إلى آخر ما ذكر.